وفاء عوّاد
ثلاث سنوات، كأنّها الأمس، كأنها اليوم وما زال “ناسك” الموسيقى وشاعرها غائباً في مشغرة يملأ حضورنا.. يومئ بابتسامته الخجولة الى زمن استحالت تفاصيله لـ “العابرين في موسم عابر” ممّن جعلوا الأغنية شراعاً ممزّقاً على أرصفة الموانئ.

موته “خديعة” لم تنطل على كثيرين من محبّيه.. لذلك، تمرّ ذكراه محمّلةً بضياء العين ورسوخ الذاكرة، تنأى بها المسافة لتقترب نحونا كلما ابتعد فيها الزمن... تنسلّ بين ازدحام الكلام، لترحّب بالأحباب الذين “طلّوا”، تقول لهم “غبتوا كتير يا حبايب” وتسهر معهم حتى “قطف مواسمنا”.
في 11 آذار (مارس) 2004، رحل صاحب “راجع يتعمّر لبنان” زكي ناصيف مطمئناً الى أنّ أعظم ما في الشجرة، ليس ثمارها ولا أوراقها، بل جذعها النائم تحت التراب يعلّمنا بصمته كلمة الغياب.. يعلّم “عاشقة الورد” كيف تحبّ وتفرح وتعطي... كيف تثق بالنفس والوطن والحياة وكيف تنتمي!
بعد أكثر من 200 أغنية ولحن أضافها إلى تاريخ الموسيقى اللبنانية، يشتعل فينا نهاراً يجيء دائماً في “ديار لنا” وشمعة مشعّة لا تغيب على “دروب الهوى”.. يأتي إلينا قيامةً تبشّر بعشق جديد، شاهراً ما في الشرايين من وطن، فيستحيل نبيذ دفئه شراباً لمواعيدنا. يعلّمنا أن وجودنا في “بلدنا” لا يورق إلا في مواويل التضحيات الكبيرة. إذ لا فرق عنده، اليوم، إن نبت على قبره جذع سنديان، أو ضلع زنبق أبيض موشّح، أو سنبلة مليئة تطعم جوقة عصافير كاملة.
بعد مضي ثلاث سنوات، ها هو “عاشق الأرض والتراث” و“فنان الطبيعة الريفية” يقصّ على“جار الرضا” بعضاً من تفاصيل حكاية الـ88 عاماً، منح حوالى 70 منها في استلهام التراث الفولكلوري اللبناني، مستقياً مفرداته من المدى الممتدّ أمام ناظريه، من الأودية، السهول، الجبال، الأنهار، الزهر، النسمات، الطير الشادي والأرزات.
صورته تزورنا حيث نحن، تنهض وتهمس “يا هلا” وتذكّر بمؤسّس ذاكرة الأغنية اللبنانية، على وقع صوت الطاحون والمجوز والدبكة في العرزال، موهبة وعطاءً وتميّزاً، حيث سما بالفولكلور عن التداول الرخيص ابتداءً من أول لحن له لـ“كيف أنساك، وفي بالي وعيني صورة أنت، على رحب الخيال” الى تنقّل عمله بين إذاعة “الشرق الأدنى” عام 1953 و“الإذاعة اللبنانية” مروراً بإدخاله “الكورس” على الغناء في الإذاعات، وانطلاقته الحقيقية في مجال صناعة أغنيات الدبكة المستمدّة من روح الفولكلور، حيث أعطى الأغنية الفولكلورية هويتها وشكلها وميزتها في مهرجانات بعلبك إبتداءً من عام 1955، وتحديداً من خلال عمله مع فرقة “الأنوار” وصولاً الى تلحينه لكثيرين منهم: فيروز، نصري شمس الدين، وديع الصافي، صباح، وماجدة الرومي...
وأخيراً، ونحن نودّع ثلاثة أعوام على رحيله، لا يسعنا سوى ترديد حلم زكي“راجع يتعمّر لبنان”.