باريس | تحمل النساء نصف السماء وفق المثل الصيني. الكاتبة والمترجمة جوسلين اللعبي (1943) حملت على عاتقها نصف السماء لسنوات إثر اعتقال زوجها الشاعر المغربي والمناضل السابق في اليسار الماركسي اللينيني عبد اللطيف اللعبي. المخرج عبد القادر لقطع (1948) انطلق من كتابها «رحيق الصبر» La liqueur d›aloès، لإنجاز فيلم «نصف السماء» (بطولة صونيا عكاشة وأنس الباز ــ 2014). فيلم عبارة عن سيرة تابع فيها المخرج طريقها الطويلة في الدفاع عن قضية زوجها، كمعتقل سياسي في سجون نظام الحسن الثاني.
من خلال سيناريو ألفه مع عبد اللطيف اللعبي، يقترب المخرج من سنوات الانتظار الطويلة، والاعتقالات المتكررة التي لم يكن ضحيتها اللعبي وحده، بل زوجته وأطفاله الثلاثة. كان «ذنبهم» الوحيد القرابة مع رجل اختار الكتابة والشعر كمعارضة سياسية لنظام شمولي ذاقوا لظاه. اللعبي الذي جعل مجلته «أنفاس» صوتاً للمعارضة الفكرية والأدبية والسياسية، كان أيضاً من قيادات منظمة «إلى الأمام» اليسارية مع أبراهام السرفاتي وآخرين. هذا ما جعله تحت المراقبة الأمنية، والاعتقالات المتكررة منذ بداية السبعينيات وصولاً إلى محاكمته عام 1972، بعشر سنوات سجن قضى ثمانية منها في المعتقل.
يحكي الفيلم هذه الفترة بالضبط، لكن بعيون جوسلين التي انخرطت في حراك أسر المعتقلين السياسيين، ووصل بها الأمر إلى أن تصير حلقة وصل بين القيادات داخل السجن وخارجه. المعلوم عن الصبر أنه نبات يعيش في مناخات قاسية، ومعركة جوسلين وزوجات وأمهات وحبيبات المعتقلين السياسيين في سجون المغرب خلال السبعينيات والثمانينيات، كانت مجبولة بنفس المعاناة. شكلت النساء الواجهة الأساسية والفاعلات في نضالات طالبت الدولة بالاعتراف بأن الملف هو قضية اعتقال سياسي. عشن اعتقالاً مضاعفاً: سجن رجالهن، وقسوة حيواتهن، في مجتمع فرضت عليه السلطة السياسية إنكار كلمة «الاعتقال السياسي» والصمت الجماعي بقوة الحديد.

أهدى المخرج
العمل إلى شهداء «اليسار الجديد»

يركز الفيلم على شخصية المرأة، بينما يتوارى اللعبي الذي يؤدي دوره أنس الباز الذي تعرّف إليه جمهور السينما مع فيلم «كازانيكرا» لنور الدين الخماري. استطاعت صونيا عكاشة التي تعرّف إليها الجمهور أيضاً في فيلم نور الدين الخماري الثاني «الزيرو» أن تؤدي شخصية جوسلين المعقدة. جوسلين الفرنسية الأصل هي مغربية الهوى، أمضت حياتها كلها في المغرب. حضور عكاشة الطاغي، رافقه شبه اختفاء للباز الذي لم يمنح الكثير من المساحة داخل السيناريو، وكان ظهوره باهتاً خلال مشاهد المحاكمة التاريخية التي حكم فيها بعشرات السنين من السجن على المعتقلين اليساريين. بدا أنّ الباز غير ملمّ لا بتاريخ اليسار ولا بأدبياته، ولا حتى بشخصيته. بدا كأنه يتلعثم فيه، ولم يتقمص بقوة الشخصية بقدر ما كان يؤدي بشكل باهت حوارات، يغطي عليها مظهره الوسيم.
حقق «نصف السماء» مساراً محترماً في المهرجانات، فافتتح الدورة الأخيرة من «المهرجان الوطني للسينما» في طنجة، واختتم مهرجان «بانوراما السينما المغاربية والشرق الأوسطية» الذي اختتم قبل أيام في «معهد العالم العربي» في باريس. إلا أنه يظل بطعم نصف الفيلم. رغم جمالية الصورة، وتركيبتها، والإضاءة، إلا أن هنات تظهر هنا وهناك. هنات تصل إلى الإيقاع، والحبكة الدرامية، التي تحوم حول بعض الحكايات المرتبطة بالاعتقال، ولا تشكل بالضرورة محطات أساسية تسهم في شد الانتباه ورفع مستوى توقعات المشاهد.
ما يحسب للفيلم أنه لم يسقط في البكائية ولا خطاب البطولات. قدم نماذج مختلفة لنساء ساهمن في حراك عائلات المعتقلين بخاصة إيفلين السرفاتي، أخت أبراهام السرفاتي التي عذبت في مخافر الشرطة، بسبب قربها من أخيها الفار حينها من الدولة، وصديقات الرفاق وأمهاتهم اللواتي أصررن على النضال للحصول على حريتهم. وفِّق المخرج أيضاً في مشاهد التعذيب التي كانت خَفِرَةً، ولم تسقط في فخ العنف، بقدر ما أصرت على الإيحاء. كما أنه قدم الكثير من اللحظات الطريفة في اعتقال اللعبي، كقدرة جوسلين على إدخال الفودكا إليه في السجن، وتواطؤ حارس الأمن معه الذي أخرجه من الاعتقال إلى شاطئ البحر، في السنة السادسة من اعتقاله.
أهدى المخرج الفيلم إلى شهداء حراك «اليسار الجديد» في المغرب في سنوات السبعينيات، كعبد اللطيف زروال، وسعيدة المنبهي، وجبيهة رحال، ووفى جوسلين اللعبي بعض حقها. هي المرأة التي وقفت دائماً إلى جانب القضايا العادلة نضالاً سياسياً وأدبياً: فهي مترجمة «عائد إلى حيفا» إلى الفرنسية، ومعها «البئر الأولى» لجبرا إبراهيم جبرا، كما ساندت دوماً القضية الفلسطينية ونضالات حركات التحرر في العالم العربي.