strong>جوان فرشخ بجالي
تحتفل شعوب البحر الأبيض المتوسط منذ أكثر من 2000 سنة بعيد الأم مع بداية فصل الربيع. وهذا التوقيت ليس مجرد صدفة، بل امتداد لتقاليد دينية قديمة عمرها آلاف السنين، وهي معروفة في الطقوس الدينية لكل الحضارات القديمة. تُعَدُّ الأمومة رمز الحياة واستمرارها، تماماً كفصل الربيع الذي يعبِّر عن عودة الحياة إلى الأرض بعد “موتها” في الشتاء. فالأرض هي الأم الكبرى التي تعطي الحياة وخصوبتها، وزراعتها تسمح للشعوب بتأمين قوتها، وبالتالي البقاء على قيد الحياة.
الربط بين الأم والحياة، أو اعتبارها مصدراً للحياة هو ما دفع الإنسان في عصور ما قبل التاريخ إلى “عبادتها”. وفي هذا الإطار تشرح الدكتورة كورين يزبك المتخصصة في فترة ما قبل التاريخ أن “أقدم دلائل اهتمام الإنسان بالماورائيات والمعتقدات كان من خلال التماثيل التي اتخذت شكلاً أنثوياً، وأقدم تمثال من هذا النوع اكتشف قرب مدينة ويلندورف النمساوية، ويعود تاريخه إلى 25000 سنة، وهو يصور امرأة حاملاً، بطنها كبير وثدياها بارزان”. وتضيف يزبك أن صناعة التماثيل “الأنثوية بدأت في الشرق الأوسط في الفترة الناتوفية، أي مع بداية اكتشاف الزراعة منذ حوالى 10.000 سنة، وكان يتم إبراز المناطق الأنثوية في جسد التمثال (الثدي والبطن...)، وكانت التماثيل تُصنع من الطين”. وقد اكتشف علماء الآثار تماثيل “الأمومة” في وادي الفرات ومنطقة العاصي. ويمتلك متحف الآثار في الجامعة الأميركية في بيروت عدداً كبيراً من هذه القطع، وقد عُرِضَت في خزانات، ووزعت التماثيل وفق الفترات الزمنية التي تنتمي إليها، ووضعت كلها تحت عنوان واحد هو الخصوبة. وفي هذا الإطار تقول مديرة المتحف الدكتورة ليلى بدر إنه “يصعب تحديد دور هذه التماثيل البشرية الطينية نظراً لغياب النصوص التي تشرح وظيفتها، لكن من المؤكد أنها كانت مرتبطة بشكل قوي بشعائر الخصوبة، وكانت تستعمل نذوراً دينية. فالأم رمزت أيضاً إلى التكاثر، وفي الإنجاب يكمن سر استمرار الحياة، أي التغلب على الموت، لذا صنع الإنسان في القدم تلك الدمى التي وضعها في فترة معينة في محاريب صغيرة داخل المنازل، أو ألصقها بالمباخر والجرار تيمناً بالحياة والخصوبة. هل تسمح هذه التفسيرات بالتحدث عن عبادة آلهة الأمومة في تلك الفترات من التاريخ؟
تجيب بدر:“يمكن ذلك، فبالنسبة إلى الشعوب القديمة كان من الضروري ربط شعائر الخصوبة بآلهة، وسترمز تلك الآلهة بالطبع إلى الأمومةتختلف أشكال التماثيل الطينية للمرأة بحسب الفترات الزمنية التي تنتمي إليها، لكن اللافت للنظر أنها كانت موجودة بلا انقطاع منذ بداية الحضارات وحتى الفترة البيزنطية. ففي الألف الثالث قبل الميلاد تغيب تفاصيل الجسم البشري ــــــ عدا الثديين ــــــ لكن تتنوع طرق تصفيف الشعر (من الجدائل القصيرة، والطويلة، والمربوطة وغيرها...)، حينما كانت الدمى الذكرية راكعاً يحمل نذوراً. وفي الألف الثاني كانت لهذه “الدمى” رؤوس تشبه رأس العصفور، لكن في جسمها العاري كانت تبرز علامات الأنوثة. وفي فترة العصر الحديدي ظهرت هذه “الدمى” مصبوبة في قوالب من الطين مفرغة من الداخل. وهي تجسيد لنساء حوامل تضع أياديها حول بطونها أو تمسك بأثدائها وهي مرتدية فساتين طويلة لها ثنيات عديدة. أما في الفترة الهلنستية فقد ظهر وجه المرأة الحامل بملامح طبيعية وواقعية مرتدية فساتين فضفاضة، وبقيت تلك التماثيل في المنازل حتى الفترة البيزنطية. والجدير بالذكر أنه كان لكل ديانة قديمة إلهة واحدة تجسد الأمومة، فكانت عشتروت عند الفينيقيين، وهاثور عند المصريين وعنت في أوغاريت وإينانا عند السومريين... ومع تطور الحضارات بدأت تظهر آلهة أخرى تجسد المرأة الجميلة والجذابة والقوية.
واحتفظت الديانات السماوية بمكانة مميزة للأم. ففي المسيحية هي والدة الله التي تجسد عبرها وعاش بين البشر، وقد حاول الفنانون في كل العصور إظهار هذه الصورة من خلال الرسومات أو الجداريات أو الأيقونات، وهي تُعَدُّ من روائع الفن في العصور البيزنطية والوسطى والنهضة وغيرها. وجاء في الحديث الشريف “الجنة تحت أقدام الأمهات”. وتسمى الأم في الدول العربية “ست الحبايب” كما غنتها الراحلة فايزة أحمد.