طوكيو ـــ بيار أبي صعب
  • الجعايبي وبكّار واسكندراني عشّاق الوطن المهزوم

    مسرحيّة الفاضل الجعايبي «خمسون» تختصر اللحظة السياسيّة العربيّة بامتياز، من خلال الصراع بين العلمانيين وأصحاب المشروع السياسي الديني. في عرضه الجديد الذي احتفى به «مهرجان طوكيو الدولي للمسرح»، يصل المخرج التونسي أعلى درجات النضج الفنّي، ويصوغ مواجهة مدهشة بين الجسد والنصّ المقدّس

    الفاضل الجعايبي في اليابان. وصل مع عيد الكرز الذي يعلن هنا بداية الربيع، والولادة الجديدة. جاء مع جليلة بكّار وصحبهما، بدعوة من “مهرجان طوكيو الدولي للمسرح” ومديره ساتشيو إيتشيمورا، ليقدّموا “خمسون”، مسرحيّتهم التي أثارت ضجّة على امتداد العالم العربي، بسبب حصار رسمي منعها ـــ أشهراً طويلة ـــ من الوصول إلى جمهورها الأصلي...
    أخيراً تمكّنت تونس من مشاهدة هذا العمل الفريد في مسيرة مبدعيه، وفي السياق الثقافي والسياسي المحلي: معه تطرح مسألة التطرّف الاسلامي، للمرّة الأولى في تونس، بهذه الشجاعة وبهذه النزاهة أيضاً. وبعدها مباشرةً حزمت الفرقة حقائبها، وتوجّهت إلى إمبراطوريّة الشمس الشارقة. حملت معها كلّ الصخب واللوعة، القسوة والخيبة، لتواجه جمهوراً بات يعرف المسرح العربي، والتونسي تحديداً. فقد حلّ الجعايبي ضيفاً على طوكيو مع “جنون” قبل عامين...
    “خمسون” مسرحيّة عن موت الأحلام والمثل وانهيار المشاريع النهضويّة... عن فشل الجيل المؤسس، جيل الاستقلال، في بناء مجتمع معاصر، ونظام سياسي قائم على الديموقراطيّة والعدالة. عن انحسار اليسار العلماني أمام المدّ الديني الزاحف الذي يهدد في تونس انجازات الدولة الحديثة، ومكتسبات الفرد، وحقوق المرأة، إلخقمت بهذه المسرحيّة... كي لا يأتي يوم تتحجّب فيه ابنتي البالغة ثمانية عشر عاماً” يقول المخرج التونسي البارز الذي ترك لرفيقة دربه وبطلة العرض جليلة بكّار مهمّة كتابة النصّ بالتزامن مع جلسات التمرين التي استغرقت أشهراً. نصّ يريد أن يقول أشياء كثيرة، أن يعطي الحجج والمفاتيح والبراهين. لكن قوّة المسرحيّة تبدأ حيث ينتهي النصّ، أي في الطقوس والمناخات التي يخلقها الاخراج، وفي الاداء التمثيلي (جليلة بكّار، فاطمة بن سعيدان، معز المرابط، لبنى مليكة، جمال مداني، بسمة العشي، وفاء الطبوبي، دنيا الدغماني، رياض الحمدي، خالد بوزيد، حسن العكريمي).
    “خمسون” مسرحيّة ممثلين بامتياز: أجساد مشدودة الأوتار والأعصاب تتحرّك دائماً بين توتّر وبطء صوفي تأملي، في كوريغرافيا متماسكة، متواصلة من أول العرض إلى آخر لحظة فيه. أجساد في الفضاء العاري... هذا “الفضاء الفارغ” العزيز على بيتر بروك. والجعايبي في سيطرته القصوى على أدواته لا يقلّ أهميّة، اليوم، عن كبار المسرح المعاصر.
    كالعادة يغوص صاحب “عشاق المقهى المهجور” في جراح الجماعة، يواجه مجتمعاً مأزوماً يستسلم أهله، يوماً بعد آخر، لإغراءات الخطاب الاسلامي. تبدو الخيارات الراديكاليّة، العنيفة، الوسيلة الوحيدة المتبقّية لمواجهة كل هذا الظلم: ظلم الداخل والأنظمة المستبدّة الفاسدة التي لا تمثّل شعوبها، وظلم الخارج في زمن الاستعمار الجديد: “العراق، فلسطين، أفغانستان”... كلمات طوطميّة تردّدها الشخصيات المأزومة الباحثة عن خلاص في الاسلام السياسي، لمواجهة مختلف أشكال اليأس والقهر والقمع والفساد والهزيمة، والاحباطات الفرديّة والجماعيّة.
    الحكاية بسيطة ـــ والحكاية في النهاية لا أهميّة قصوى لها في عالم الجعايبي القائم على لعبة العنف، وتقنيات الاستعادة والتفكيك: أستاذة محجّبة تفجّر نفسها في ملعب المدرسة، فتضع “البلد الآمن” وملتقى الحضارات (حسب حملات الترويج السياحي)، في حالة ذهول. هل وصل سرطان “الارهاب” إلى تونس؟ (أعدّت المسرحيّة في النصف الأول من ٢٠٠٦، أي قبل أحداث حمّام الأنف الأخيرة في العاصمة التونسيّة). الشرطة تعتقل أمل وحنان صديقتَي “الانتحاريّة” جودة، وتحكم الخناق عليهما باسم قانون “دعم المجهود الدولي لمكافحة الارهاب”. لكن أمل ليست “اسلاميّة” عاديّة، إنها مشغولة بالتصوّف... تركت تونس ماركسيّة وعلمانيّة مثل والديها، بعد أن اضطهدت فيها بسبب نشاطها السياسي على أثر انتفاضة الأقصى وعادت إليها محجّبة، بعد أن أحبت في باريس طبيباً فرنسياً انتقل من التروتسكيّة إلى الاسلام.
    المسرحية مبنية على شكل مواجهة بين جيلين وعالمين: من جهة أمل ومنطقها... ومن الأخرى والداها: يوسف الشيوعي الذي عرف التعذيب في سجون بورقيبة حيث قبع ١٢ سنة، وقد صمت نهائياً حتّى الموت لحظة علم أن ابنته لبست الخمار، وأمها مريم ـــ البطلة الايجابيّة بامتياز. وحدها في مواجهة كل أشكال الأصوليّة: زوجها الذي يرفض أن تفكّر ابنتهما بشكل “مختلف”، ابنتها وصحبها الذين دخلوا في حالة هذيانيّة، غيبيّة، تهدد المجتمع بأخطر أشكال الردّة... وأخيراً وخصوصاً الجهاز القمعي الذي بنت عليه السلطة السياسيّة قوّتها.
    تسلّط المسرحيّة الضوء على عنف الشرطة واستهزائها بأبسط حقوق الانسان، دفاعاً عن المنطق العلماني! وهنا تكمن شجاعة “خمسون”: في موقفها من السلطة، وهي المسؤولة الأساسيّة عن تفشّي تلك الظواهر السرطانيّة التي تشبه شكلاً من أشكال الانتحار الجماعي. وفيما معظم الأعمال التي تناولت الاسلاميين، صوّرتهم بأشكال اختزاليّة أو سطحيّة أو كاريكاتوريّة جائرة (بما في ذلك فيلم نوري بو زيد الأخير “آخر فيلم”)، يحاول الجعايبي أن يفهم الخيار الاسلامي، من خلال شخصيّة مريم هذه المحامية الخمسينيّة ـــ عمرها من عمر استقلال تونس. تلك المرأة العلمانيّة العصريّة التي دخل أبوها السجن لأنه من أنصار بن يوسف المعارض لبورقيبة... ودخل زوجها السجن لأنّه شيوعي... وتدخل ابنتها السجن متهمة بأنّها “اسلاميّة”... تختصر وحدها تاريخ تونس المعاصر. مريم تريد أن تفهم ماذا حلّ بابنتها. هناك اعلان واضح للاختلاف مع الفكر الأصولي، وفي الوقت نفسه احترام حقيقي للتيار الاسلامي، ورغبة في مساجلته من موقع المساواة، بكلّ حريّة، وذلك بغرف الحجج من الدين نفسه، من القرآن، من التراث العربي والشعر الصوفي. فالاسلام دين غني متعدد الأبعاد والقراءات، ملك للجميع، ولا يحق لأحد فيه أن يدّعي احتكار الحقيقة المطلقة. وفي المقابل، فإن دولة بوليسيّة، قمعيّة، لا يمكنها مواجهة التطرّف بل إذكاؤه. الحريّة والعقل والمنطق والديموقراطيّة والحوار والمحاججة... هذه ينبغي أن تكون أسلحة المواجهة، يقول لنا الجعايبي وبكّار ونوال اسكندراني (كوريغرافيا) والحبيب بلهادي (فاميليا للإنتاج).
    وهنا يأتي المعادل البصري الذي يعطي للعمل قوّته ونضجه. الخشبة المتقشّفة التي تدور فوقها أحداث مسرحيّة “خمسون”، تذكّر بمسرح الـ Nô الياباني العريق. شبه مربّع فارغ، تؤثثه الحركة، وتخلق الإضاءة أبعاده السينوغرافيّة (سينوغرافيا قيس رستم). مسرح القسوة الذي يمتهنه الجعايبي يتجلّى في أنضج لحظاته على تلك الحلبة، على مستوى ادارة الممثّل. كل أشكال العنف الداخلي والخارجي تعبّر عن نفسها هنا. وتأتي مساهمة نوال اسكندراني في اختراع الحركة، واعطاء الكلمة للجسد في مواجهة النصّ (المقدّس)، لتجعلها شريكة حقيقية في “تأليف” العرض، لا مجرّد مصمّمة رقصات تتولّى تنسيق بعض اللوحات. “كلا جسد المرأة ليس بعورة”، كان يردد يوسف لابنته في مراهقتها. ونوال تعمل على كسر المحظور، على ترك هذا الجسد ـــ جسد “الاسلاميّات” تحديداً ـــ يفلت من عقاله... كي يعبّر ويعيش ويجاهر بحريّته ويعلن تمرّده... ويحتفي بالحياة!
    الجسد في مواجهة الخطاب الأصولي؟ السؤال يتخذ بعداً أوسع بعد أن وصلتنا إلى طوكيو فضيحة “مجنون ليلى” آتية من البحرين! بل الفنّ في مواجهة القمع والارهاب بكلّ أشكاله. المسرح، أحد مداميك تونس الحديثة، يؤكد الجعايبي ورفاقه أنّه سيبقى فضاء الحوار الحقيقي، “الأغورا” المعاصرة التي تعطي أملاً بالديموقراطيّة والسلم الأهـــلي. من يخاف الممثلين (والراقصين)؟