strong>رلى راشد
  • صورة حميمة للكاتب الأرجنتيني بقلم... صديقه الراحل

    «بورخيس» محور يوميّات أدولفو بيوي كاساريس الصادرة أخيراً في إسبانيا، سنوات بعد رحيل صاحبها... ينقل الكاتب الأرجنتيني معايشته اليومية لمواطنه وصديقه طوال خمسة عقود. ويستعيد النصّ الذي أعدّه دانييل مارتينو، سوداوية بورخيس، وأحكامه المُسبقة، ومواقفه من بعض القضايا المهمّة في الأدب والسياسة

    نظريّاً، تفصل هوّة سحيقة بين الكاتب خورخي لويس بورخيس وصديقه لأكثر من خمسة عقود، أدولفو بيوي كاساريس: عاش بورخيس ضريراً ومُنطوياً على نفسه في حين جمع كاساريس، تلميذ أبيقور والمُستهتر الأبدي، بين الكتابة والانتصارات العاطفيّة ومباريات كرة المضرب. كان كاساريس يجسّد كل ما حُرمه بورخيس، فأمسى النزاع بين حقيقة بورخيس والصورة الذهنيّة التي كوّنها عن نفسه وجسّدها صديقه، أشبه بلعبة مرايا ستقودهما إلى صراع نفوذ.
    في أولى مراحل معرفتهما، سيَلبس بورخيس جلد المعلّم ولا سيما أنّه يكبر كاساريس بـ16 سنة، فيما سيكتفي هذا الأخير بدور التلميذ. لكنّ الأدوار ستنقلب شيئاً فشيئاً، إذ انسحب صاحب “الألف” خلف طيف صديقه حتى كاد يصبح لامرئياً. هذا الأمر سيثير قلق والدة بورخيس، أو “جورجي” كما كانت تناديه، إلى درجة أنّها قصدت كاساريس ذات يوم لتشكو تردّد ابنها في اتخاذ القرارات وتسلّحه بالجملة اليتيمة: “ينبغي لي استشارة أدولفو!”.
    طغى كاساريس على حياة بورخيس، تماماً كما طغى بورخيس الكاتب الرائي على كلّ الأشخاص الذين تقاطعت دروبهم معه، ومن بينهم الأصدقاء والمعارف، وحتى مدبّرة منزله لأكثر من 35 سنة أبيفانييا أوفيدا دي روبليدو. هذه الأخيرة نشرت كتاب “السيد بورخيس” يروي المعلّم من وجهة نظرها. جميعهم استسلموا لذلك الإغواء، وترك لقاؤهم ببورخيس أثراً واضحاً في حياتهم (ونصوصهم)... تركوا شهادات راحت تشكّل مع الوقت أدباً مُستفيضاً عن بورخيس.
    لكنّ كلّ تلك النصوص، وعلى وفرتها، لن تستحيل “إنجيلاً مُعتمداً” يقدّم صورة كاملة عن بورخيس، كما هي الحال بالنسبة إلى يوميّات كاساريس الصادرة حديثاً عن دار “ديستينو” الإسبانية، كما أعدّها دانييل مارتينو.
    كتاب “بورخيس” يشكّل الحلَقة المفقودة في يوميات كاساريس المنشورة سابقاً، والتي بقيت مبتورةً بسبب غياب بورخيس عنها. هي ليست سيرة تقديسيّة للكاتب الكبير، بل صدى لسوداويته وفُكاهته وأحكامه المُسبقة وحركاته العصبيّة وقلقه من فقدانه النظر تدريجاً، ومواقفه من بعض الإشكاليّات والقضايا الأساسيّة في عصره، في الأدب وفي السياسة. في كل سطر تقريباً، هناك تعليق مُتهكّم تُشذّبه رؤيويّة كاساريس الذي تقرَّب قدر ما يلزم من بورخيس كي يكتفي بأن يرسم لصديقه بورتريهاً بالأبيض والأسود.
    على عكس الكاتب والمترجم ألبرتو مانغويل الذي لم تطارده فكرة ترك يوميّات عن لقاءاته ببورخيس ــ وإن خصّه بكتاب “برفقة بورخيس” قبل سنة ــ انكبّ كاساريس، بين 1947 و1989، على تدوين تفاصيل زياراته اليوميّة لبورخيس وكان يخطّط لنشرها بعد موته. بتأنٍ، استعاد كاساريس حواراتهما المشتركة في الحبّ والصداقة والموت والله والقدر والمطبخ والنساء والسياسة ونبض القرى. وكانت المحصلة 1662 صفحة تختصر بورخيس الأكثر حميميّة والأكثر قُرباً، وتضيء في طريقها على جوانب أساسيّة في شخصيّة كاساريس.
    الطرفة تستوطن كتاب كاساريس المنشور بعد موته... لكنّ الأهم أنّها تتنفّس أدباً في إشارتها الى أصدقاء فيكتوريا أوكامبو زوجة كاساريس، وناشرة مجلة “سور” الأسطورية، وإلى دانتي وثرفنتس وهوغو ولوركا والى سيّدات مجتمع وسياسيين، وأدباء نتوقّعهم مثل الكاتب الإنكليزي جيلبيرت كيث تشيستيرتون... وآخرين نتفاجأ بهم مثل فيرلين ومالارميه.
    اقتنع بورخيس بعقم الصراعات الأدبيّة، فشبّهها بسفك الدماء على خشبة المسرح، حيث لا يموت أحد في المحصلة الأخيرة. على رغم ذلك، لم يفكّر ملياً قبل تدميره أقلاماً مكرّسة بسُخرية وذكاء. هزأ من غوته و“الرواية الجديدة”، وتوماس مان الذي وصفه بالحيوان، ولم يكن أكثر رأفة ببعض أعضاء الجمعيّة الأرجنتينيّة للكتّاب، ولا مهادنةً أيضاً في حديثه عن المسيح الذي يقارنه بسقراط، ليردف أن المسيح “تمتّع بشيء من الموهبة الشكسبيريّة”، علماً أنّ شاعر إيفون هو “الهاوي الإلهي” بحسب بورخيس في إحالة ساخرة على دانتي.
    في يوميّات كاساريس، يتراءى لنا بورخيس كاتباً مُتفاوتاً في حميميته، شديد الحساسية وكئيباً أحياناً لكنّه متميّز دوماً. يقف على حدود التهكّم حتى في حديثه عن نساء حياته. يذكر هايدي لانغ التي “خبَلَتها الكحول على امتداد حياتها” وإيستيلا كانتو التي تركت مؤلفاً يسرد علاقتها ببورخيس، لكنه لا يحبّذ مهاجمتها للبيرونيّة بعد أفولها عن الحكم، أي “بعدما تأكّدت من أنه لن يُصيبها مكروه!”.
    وفي قافلة نساء بورخيس، تمرّ ماريا كوداما مروراً عابراً في الكتاب. وهذا ليس مستغرباً متى أدركنا نفور كاساريس من المرأة التي ارتبط بها صديقه في شيخوخته. وكوداما التي تحكّمت بإرث زوجها الأدبي مثلما فعل ورثة جايمس جويس، تأتي يوميّات كاساريس لتوجّه لها طعنةً في الظهر. إذ أضاء على تفاصيل شخصيّة ترتبط بزوجها الذي لم يعد يستطيع الدفاع عن نفسه، وخصوصاً في ما يتعلّق بتعاطفه مع نظامَين شموليّين عرفتهما الأرجنتين مع خورخي رافاييل فيليدا وتشيلي مع أغوستو بينوشه.
    لكنّ كتاب “بورخيس” يحمل في طيّاته صكّ براءته من تهمة كسر الحاجز بين العام والخاص. إذ يستعيد حكاية كاتب شاب وبّخه بورخيس بعدما قرأ مُقتطفات من يوميّاته لأنها “لم تكن تحتوي على قدر كاف من المكاشفة والبوح الحميم، كما ينبغي لليوميّات أن تكون”.
    تصف يوميّات كاساريس بورخيس الزاهد بالجوائز الأدبيّة التي نال منها جائزة “ثرفنتس” وتقاسمها مع خيراردو دييغو، في حين تقاسم جائزة “فورمنتور” مع صموئيل بيكيت. تسلّلت نوبل الآداب من بين أصابعه مراراً، لكنّه جابه الأمر بحكمة... مفضّلاً أن يبقى المُرشّح الأبديّ للجائزة... أن يبقى أسطورةً إسكندينافية، كما قال، على أن يستحيل اسماً إضافياً في لائحة تطول. لقد تماهى بورخيس، حتى الآن، مع أسطورته... وربما جاءت يوميّات صديقه أدولفو بيوي كاساريس بمثابة الضوء الأخضر لمباشرة عملية تحطيم تلك الأسطورة.