strong>حسين بن حمزة
في مجموعته الجديدة «ملعب من الوقت النائم» (دار النهضة العربية ــ بيروت) يواصل زكي بيضون إقامته في تلك النصوص التي أدهشتنا بغرابتها. نصوص تبدأ غالباً باستهلال مفاجئ لا يخطر على بال القارئ.
النص الذي يكتبه بيضون لا يكتفي بغرابة الاستهلال، بل تكاد الغرابة تحتل مساحة النص بكامله. هو لا يدّعي الغرابة ولا يجرّب تطعيم نصه بما هو غريب، بل يكتب نصاً غريباً في الأساس. إنها هنا نوع من مشروع شعري شخصي، بدأه زكي بيضون منذ مجموعته الأولى “جندي عائد من حرب البكالوريا” (2001). ولهذا لا تحضر كمعطى مجاني أو تزويقي في هذه الكتابة. إنها مخيلة الشاعر بكاملها. ولا بد من أن حضور الغرابة الأصلي والقوي هو الذي يفسر الموضوعات والعوالم والتقنيات التي يفضّلها زكي بيضون.
لذا غالباً ما يُفاجَأ القارئ بهذه الموضوعات والعوالم والتقنيات أولاً، فتطغى لديه على سواها من التفاصيل الأخرى ــ القليلة على أي حال ــ في نصوص زكي بيضون. وهناك أمثلة كثيرة تؤكد أن بيضون ومنذ الجملة الأولى يقود القارئ إلى أرض الغرابة والدهشة. ففي مستهل نص “بداهة حمار” نقرأ: “في مؤخرة الحمار مدينة، وفي مؤخرة المدينة حمار، هذا حتمي لو كان العالم دائرياً”. أما نص “رهافة قاتل” فيبدأ بـ“أعرف رجلاً يحمل حجراً في رأسه، يعتقد أنه يجلب له الحظ”، وفي نص “صمام أمان” نقرأ: “أحياناً كل ما أريده مسدس أقحمه في رأسي”.
الأرجح أن بدايات كهذه ستؤدي إلى نهايات مماثلة، لن يستطيع القارئ التكهّن بها لكنها ستواصل إدهاشه حتماً. الغرابة، بهذا المعنى، ليست صفة عابرة في هذه الكتابة، إنها نتاج مخيلة خصبة ومنفلتة من شروط المنطق الشعري، ولذلك لا تقدم فروض ولاء لهذا المنطق. ويبدأ هذا الانفلات من طريقة تدوين النص فهو لا يتموضع سطراً تحت سطر كما هي العادة في كتابة قصيدة النثر. معظم نصوص المجموعة مكتوب وفق هواجس سردية أكثر منها شعرية، حتى إن بعضها يمكن قراءته كقصص قصيرة. لكنها، حتى إذا قُرئت على هذا النحو، لن تنجو من كونها قصصاً غريبة ومنفلتة الخيال. وهذا ما يجعل كتابة زكي بيضون أشبه بنبات غريب في أرض الشعر الذي يكتب اليوم. فهو، وإن كان يتشارك في طموحات شعرية ما مع أقرانه من الشعراء الشباب، يشقّ لنفسه درباً منحرفاً بشكل حاد عن معظم تجارب هؤلاء. يبدو كمن يصغي إلى صوت جوّاني يمتزج فيه اللهو المجاني والتفلسف الشخصي والخيال الواسع، وما ينتج من كل هذا هو نص يقترب من حدود الخيال العلمي أحياناً، ليس لأنه يتجاوز الواقع العادي فقط، بل لأنه صعب التصديق أيضاً.
إن إطلاق صفة “نصوص” على كتابة كهذه هو نوع من الإقرار بخصوصية مكونات هذه النصوص وتفصيلاتها اللغوية. وهذا التوصيف لا يعني إقصاءها من السجل الرسمي المعتمد للشعر، بقدر ما يعني ضآلة اكتراث زكي بيضون للشروط التقليدية التي تفرز ما هو “شعر” عما ليس شعراً. والواقع أن النصوص نفسها تتحدى هذه الشروط، وتستأنف الكتابة ضد هذا الفرز الكسول والغبي. هكذا يصير اعتيادياً أن نقرأ نصاً بعنوان “رحيل السماء” حيث يستيقظ الناس ليجدوا أن السماء اختفت، والأهمّ أن النص ينتهي من دون عودتها. أما “الجلاد والغريب”، وهو أشبه بقصة متكاملة السمات، فيروي حكاية ولادة ابن عادي لأب عملاق.
وفي “الإرهاب في السماء”، نقرأ أن الشيطان قرر أن ينفذ عملية انتحارية يقضي بها على الله. ولأن العملية المتخيلة تنتهي بالقضاء على الشيطان أيضاً، فإن بيضون يختم النص بجملة ذات نكهة فلسفية ساخرة: “صار كل رجل يمثل حقيقة مطلقة وإلهاً بالنسبة إلى نفسه، وكان أن تحققت الديموقراطية في أبهى حللها”.
لا يحتاج القارئ إلى الإكثار من الأمثلة، للإحاطة برِهان زكي بيضون على الغرابة والسرد في إنجاز مجموعته الجديدة، فكل نص فيها هو تجسيد لهذا المشروع. صحيح أن الغرابة والسرد هما جناحا الشعر الذي يكتبه زكي بيضون، إلا أنه يمرر، بين حين وآخر، صوراً تذكّرنا بالشعر الخالص، كما هي الحال في هذا المقطع: “مع أنني واضح كبحيرة، فلن أستطيع أبداً أن أحصر الوحوش التي تهيم في سراديب أعماقي، وتحرّكني كما تحرّك الكتل المشتعلة والهائمة في باطن الأرض الزلزال”.