نقولا ناصيف
يحاور غسان شربل أربعة مسؤولين أمنيين في لبنان منذ عهد فؤاد شهاب حتى ولاية لحود الثانية. يأخذنا رئيس تحرير «الحياة» السعوديّة، في رحلة عبر مناطق غامضة وملتبسة، على خلفيّة الراهن المتفجّر

على مرّ سنوات في مجلة “الوسط”، قبل أن تحتجب، كتب غسان شربل تاريخ الحرب اللبنانية بالمفرّق، رجلاً بعد آخر ممن اضطلعوا بأدوار مهمة، أبطالاً أو ظلالاً أو شهوداً في أحداث طبعت الربع الأخير من القرن الفائت حتى السنوات الأولى من العقد الحالي. كلّهم مروا بسبحة سلسلة “... يتذكر”.
بعد هذه السابقة، كثر الذين يتسابقون إلى تكرار التجربة. كان غسان شربل سبّاقاً الى إخراج بعض من استجوبهم ــ إذا صحّ ألا يقال حاورهم ــ من صمتهم، والبعض من ماضيهم، والبعض ممن أدمن الثرثرة فأعاده إلى قراءة الحقبة التي مرّ فيها. وهو بذلك لم يكن يؤرخ، بل أدخل النبض في شهادات.
وقد يصح أحياناً القول إن كتابة تاريخ حقبة أو رجال لا يتطلب الموضوعية فحسب، بل أيضاً مقداراً من الذاتية والأهواء والتجاهل والادعاء والتجنّي والمداورة من أجل تبرير الذات. عندما تحدث غسان شربل إليهم، أخذ بأذن المحاور لا برؤية المؤرخ. ولذا يمكن أن نعتبر، من خلال عشرات المقابلات ــ الشهادات التي أجراها عن الأحداث نفسها، أنه أوجد الكتابة المقارنة: يضع المتحاورين على الصفحات وجهاً لوجه، من دون أن يقابل أحدهم بالآخر. يصغي إلى مزيج الذاكرة بخيبة الماضي أو الحاضر وتبرئة الذات والدفاع عن النفس، والأهم من ذلك كله، استعادة ثقة ودور منهكين.
ومع أنه لم يطبع السلسلة الطويلة تلك في كتاب، فإنّها حُفظت في أعداد “الوسط” قراءة جديدة لحاضر لبنان القريب. وهو بذلك أراد أن يقول لأجيال استيقظت على زعماء ما بعد حقبة اتفاق الطائف، إنّه ليس هؤلاء مَن صنع تاريخ بلدهم. ولعل بينهم الأسوأ إذا قُيّض يوماً لمن يكتب ــ بل يؤرّخ ــ تاريخ النصف الثاني من السبعينيات وصولاً إلى عقد التسعينيات.
في مقدمة كتابه الجديد “ذاكرة الاستخبارات” (رياض الريس)، أبرز غسان شربل مغزى إعادة بناء جزء من تاريخ لبنان التبس الكثير من أحداثه، كما التبست أدوار أبطاله اللبنانيين وغير اللبنانيين، فابتلعت الحرب بعضهم، وعاقبت (أو كافأت أيضاً) آخرين... وقتل تقاطع المصالح البعض الثالث.
يقول غسان شربل عن دافع الحوارات الطويلة التي أجراها إنه كان يخشى “ضياع الروايات بفعل الصمت أو الاغتيالات، ما يسهّل لاحقاً كتابة قصة الحرب بحبر المنتصرين، وتكون الحقائق آنذاك بين الضحايا”.
لكن “ذاكرة الاستخبارات” يقدم جزءاً من تاريخ لبنان، كان ولا يزال الأكثر جدلاً واستفزازاً للفضول والرغبة في المعرفة والنهم إلى المعلومات. إنّه الجزء الذي يبدو في أمس الحاجة إلى كشف أبطاله وشهوده، والاقتراب منهم لملامسة أدوار التواطؤ والاجتهاد وتقدير المصلحة العامة والتطابق بين شرعية الصلاحية وشرعية الفعل. يقدم حوارات طويلة عن أربعة أخرجهم غسان شربل من الصمت: جميل السيد من حاضره، وغابي لحود من ماضيه، وجوني عبده النابض في ماضيه وحاضره على السواء، ومحمود مطر من مفخرة مخيّبة. كان كلّ من جميل السيد وغابي لحود وجوني عبده رجل قرارات عهده، ورجل خيارات مكلفة. أما محمود مطر فبطل إحباط صفقة تهريب طائرة ميراج لبنانية إلى أذربيجان بتخطيط من الاستخبارات السوفياتية للاطلاع على أسرارها. أخطر قيادته وجارى لعبة خطرة بكلفة مليوني دولار هي حصته عام 1969، ثم فضح مع غابي لحود وسامي الخطيب وعباس حمدان وإدغار معلوف الصفقة، فكلف ذلك الشهابية هزيمتها في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970، ومن ثم تقويض المدرسة الشهابية من أساسها.
كان خيار جميل السيد العلاقات اللبنانية ــ السورية، وخيار غابي لحود الشهابية، وخيار جوني عبده توأمة شرعية الرئيس الياس سركيس مع مقاومة بشير الجميل كي تصبح هذه هي الشرعية. لكن خياراتهم هذه تهاوت عندما اعترضت تقاطع المصالح الإقليمية والدولية: أُقصي جميل السيد ودخل السجن، وأُقصي غابي لحود وأُبعد ودخل السجن وفرّ من المحاكمة وانتهى رجل أعمال بارزاً في أوروبا وأفريقيا حاملاً جنسية إسبانية، وذهب جوني عبده إلى منفى اختياري مذ أن قُوّض مشروع بشير بعد اغتيال الرئيس المنتخب.
في الحوارات الأربعة سيرة ضباط لم يتكلموا إلا في خاتمة التجربة وعصارتها. هي أيضاً سيرة سلطة أمنية متفاوتة الأدوار بتباعد الحقب. لم تعمل في الظل، ولم تخجل من خياراتها وأساليب عملها، ولا من قراراتها التي لا تستهويها المؤسسات الديموقراطية في الغالب بحكم الوظيفة والأداة والصلاحية والهدف. ولم تتردد في التعسف دفاعاً عن شعار كل سلطة أمنية في كل زمان وفي كل ديموقراطية: المصلحة العليا للدولة. كان هؤلاء في قلب القرار السياسي. ومعظمهم صنع أو برّر أو أوحى أو واجه لحماية خياراته هذه. إنها أيضاً وأيضاً سيرة حقبة معقّدة من تشابك المحلي بالإقليمي.
في 350 صفحة، يفتح غسان شربل باباً على جزء من تاريخ لبنان لا يحتاج إلى قراءة فحسب، بل أيضاً إلى إجراء مقارنة تاريخية وسياسية وعقائدية ــ وربما أمنية لمن يجيدها ــ من أجل كتابة هذا الفصل الجديد من تاريخ لبنان وإعادة تقويم دروس الماضي البعيد والقريب. فليس السياسيون وحدهم، ولا المثقفون ولا الشعراء ولا الصحافيون يكتبون تاريخ أوطانهم. ابحثوا أيضاً عن رجال آخرين مكتفين بعزلة ماضيهم، ومحاصرين بصمتهم، وبأسرار ينبغي أن تعوم فوق سطح الماء.