سعد هادي
يشترك كتاب “في ضيافة الوحش” (دار أزمنة ـــ عمان) مع كتب عراقية صدرت في السنوات الأخيرة، أبرزها “جدار بين ظلمتين” لرفعة الجادرجي وبلقيس شرارة، في رصده وقائع حقيقية عاشها الكاتب طارق صالح الربيعي سجيناً لاربع سنوات بين عامي 1999 و2002 بتهمة لا يعرفها، تتغير مع تغير المحققين. حتّى ملفّه الشخصي لدى دائرة الأمن الذي يحصل عليه بعد سقوط حكم البعث، يؤكد أنّه سجن بوشاية كاذبة من أحد معارفه، استدرجه مع صديقين له، وقام بتسجيل ما تمازحوا به عن الرئيس القائد.
يكشف المؤلف عبر عشرة فصول تفاصيل رحلته بين زنزانات تختلف أحجامها وألوانها، أولاها: غرفة مصبوغة باللون الأحمر الغامق، لا يزيد طولها على مترين فيها مصباح احمر وإناء من البلاستيك الاحمر ايضاً. هنا، تذكّره الكتابات على الجدران بمن سبقوه، فيسأل نفسه: ماذا حلّ بهؤلاء؟. قبل ذلك، دوّن السجّان على ذراع الربيعي رقم 685 وقال له: “هذا هو اسمك الجديد واحذر من نسيانه”. وتبدأ رحلة العذابات حيث تتوالى عليه عمليات الاستجواب والتعذيب جسدياً ونفسياً، ويسأله المحققون عن جرائم لم يرتكبها. “في ذلك السرداب اجلسوني على كرسي تتأرجح، رفعوا العصابة عن عيني فرأيت رسوماً في غاية الرداءة والدموية، لا يضيء جدران الغرفة غير مصباح خافت، تحته رافعة مع سلاسل حديدية متدلية من أعلى السقف. هناك ايضاً رولات مسننة، يضعون المعتقل عليها. وعندما تتحرك تبدأ الاسنان بوخز الجسد”.
تبدو المشاهد التي يرويها الكاتب اشبه بالكوابيس، تلاحقه وجوه المحققين دائماً، يتذكر اساليبهم في الاستجواب والتعذيب. يقول له أحدهم مرة بعد أن يعلقه بالسقف: “اعترف بأي شيء حتى لو كان من تأليفك”. حتى حين يصاب بانهيار عصبي ويبدأ بالصراخ ليلاً وهو نائم، لا يصدقه أحد بل تتهمه ادارة السجن بالتمثيل، فيما يعتقد سجين ضرير أنّ جنّياً قد سكن جسده ويبدأ بعلاجه على هذا الأساس. وحين يفشل يدعي أنّه أخرج الجني الأب، لكنّ أبناءه السبعة ما زالوا يسكنون جسده. في الزنزانات التي ينتقل اليها لاحقاً، يتعرف الربيعي إلى العديد من الاطباء والمهندسين واساتذة الجامعة والضباط الكبار لا تختلف التهم المنسوبة اليهم الا في بعض التفاصيل. بعضهم يذهب الى الموت من دون أن يدرك السبب: “رأيت العشرات من المعتقلين وقد تشوهت أعماقهم وتسلل الخراب والخبل الى عقولهم، والذين ما سمعته عن تهمهم يبعث على الضحك. المهم أنّهم أصبحوا مصدر متعة لرجال المخابرات لإثبات ولائهم للسلطة”.
اخيراً يُحكم على الربيعي بالسجن لمدة 15 عاماً بعد محاكمة لم تستغرق سوى بضع دقائق. والطريف أنّ المحامي الذي عينته المحكمة للدفاع عنه طالب هو الآخر بمعاقبة الربيعي.
أحداث سجن “أبو غريب” الذي ينقل اليه ليقضي سنوات محكوميته، تُروى في الفصل الأخير من الكتاب. هنا استعاد الربيعي الحياة جزئياً، اعيد له اسمه على الأقل بعدما ظل رقماً مجرداً لسنوات. بدأ يرى بشراً من العالم الآخر، من الاحياء الذين يأتون لزيارته. الا أنّ ذلك لم يستمر سوى اسابيع قليلة لتفتح أبواب السجن ويخرج السجناء جميعاً احتفالاً باعادة انتخاب صدام حسين رئيساً للعراق بنسبة 100 في المئة! “كان العشرون من تشرين الاول (اكتوبر) أشبه بيوم القيامة، كل واحد منا يحمل امتعته وبؤسه في حقيبة واحدة او بدون حقيبة، اربع ساعات ونحن في انتظار الحرية التي تأخرت كثيراً. ومن وراء البوابة رأينا حشود الناس خارج السجن، كنت امشي مع السجناء نحو البوابة العملاقة، لا اكاد اصدق ما يجري”.
ما يميز هذا الكتاب عن سواه حرص مؤلفه على ذكر أدق التفاصيل التي عاشها خلف الجدران المظلمة. وما يسجله من وقائع وإشارات قد يبدو احياناً بلا اهمية أو خارج سياق الاحداث الاساسية. الا أنّ تسجيلها ينقذ الكتاب من أن يكون نصاً أدبياً لمصلحة أن يكون شهادة واقعية عن زمن مضى. حتى ما اضفاه محرّر الكتاب عبد الستار ناصر عليه من لمسات أدبية لم يخرجه من ذلك الاطار بل ربما جعله اكثر تأثيراً واكثر صلاحية للقراءة. ليست هناك تأملات فلسفية بل مشاعر حقيقية لرجل واجه الموت والألم والقسوة لكنه لم يفقد ذاته. رجل أرهبته الظلمات لكنها لم تدمّره تماماً، بقي شاهداً بينما تهاوت القلعة الحصينة وانطمرت ولا تاريخ لها بعد اليوم على حد تعبيره.