نجوان درويش
لا يتخيّل المرء أنّ فيلم فيديو ديجيتال، أُنجز بموازنة لا تذكر، يمكنه أن يقدّم سرداً متماسكاً يحبس الأنفاس لساعة من الزمن. “جُزر” فيلم محمد صلاح الذي عُرض أخيراًً في قسم “أفلام الديجيتال” ضمن مهرجان برلين السينمائي، إنتاج متقشف وجريء. إلا أنّه يذكّر ــ بطريقة ما ــ بما قدّمتهالسينما الإيرانية في بواكيرها، مبرهنةً على قدرة السينما على التحقّق بأدوات متواضعة، عندما تتوافر الموهبة في صنّاعها.
تبدو أفلام الديجيتال الآن تعميقاً لمسار مخرجين حاولوا قبلاً شق الطريق إلى “سينما بديلة”. ويبدو كل هذا مفهوماً لأن أفلام الديجيتال اضطلعت بهذا الدور تحديداً: إذ يبدو صنّاعها متحررين من شروط الإنتاج وارتهانات السوق من جهة ومن سلطة الجمهور وتوقّعاته من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى كون طبيعة المادة (أي الديجيتال) تُنتج طريقةَ سرد وحساسية وتفكير مختلفة تفرضها طبيعتها التقنية. فلغة الديجيتال ليست لغة السينما نفسها كما يبدو واضحاً في النماذج الجيدة وبينها “جُزر”.
يقدّم “جُزر” خمس قصص لعوالم فردية عاجزة عن إقامة تواصل مع الآخرين. تنتمي الشخصيات إلى حالات اجتماعية وأجيال مختلفة. إلا أنّ ما يجمعها هو مشكلة الوحدة التي تعيشها كلّ منها على طريقتها. هذه النماذج قد توجد في أي مكان من العالم حيث تزيد العولمة من عزلة أفراده ومظاهر تماثل هذه العزلة في آن.
في “جزر”، هناك الشابة التي تكتب رسائل إلى نفسها بكل جدية وترسلها في البريد، والشاب الذي يعيش حياته عبر الإنترنت مع العلاقات الإلكترونية التي تفشل حين تطأ أرض الواقع. ويصوّر الفيلم حياة امرأة مسنّة تكرّ أيامها متماثلة كأنها يوم واحد في شيخوخة رتيبة وشفافة في آن. وأخيراً، لدينا “الكوبل” الشعبي (بائع فجل وزوجته) اللذان يتضاربان طوال المشاهد، و“منظف المراحيض” ذاك الشاب الصامت الذي يستعير مشاعره وردّات فعله من مشاهد أفلام يحفظها من دون أن يستطيع التمرّد على واقعه أو الردّ على الإهانات التي يوجّهها إليه مسؤوله في تنظيف الحمام (السُلطة). هذا الشاب الذي يُمكن النظر إليه كاستعارة بليغة لواقع الشعب المصري. فـ“منظف المراحيض” “يعيش” في ضجيج “الفضاء الكلامي” الذي يبثّه التلفزيون. وحركة التمرد الوحيدة التي ينفّذها تكون ضد نفسه في نوع من الارتداد على الذات وتدميرها (نجد معادلاً له في العنف الطائفي الذي شهده الشارع المصري أخيراً ــ وخصوصاً العنف الذي وقع في الإسكندرية).
يشتغل الفيلم منذ العنوان على فكرة “الجزر المعزولة” التي تُستعمل عادة لوصف نمط من الاغتراب المعاصر (المديني غالباً)، حيث يعيش الأفراد معاناتهم جنباً إلى جنب لكن من دون مشاركة، وفي غربة لا تنجح مظاهر الاجتماع إلا في تعميقها.
وعلى رغم أنّ “الجزر المعزولة” باتت استعارة شائعة وفكرة مستعملة، إلا أن “جزر” محمد صلاح نجحت في تقديم شيء مفارق ومفاجئ حقاً. ما هو مفاجئ هو ما تجنّبه المخرج في فيلمه، أكثر ممّا هو إنجازه الأسلوبي. وقد يكون إنجازه الأسلوبي محصّلة لما تجنّبه من ذخائر “الكيتش” التي يتنفّسها الإنتاج الدرامي في مصر. إذ نجح مخرج “جُزر” في تقديم عمل يحمل في داخله البيئة المصرية من دون أن يحمل أياً من العوارض الأسلوبية التي تقترن بالإنتاج السينمائي المصري وتحدّ من كفاءته. حتّى يُخيّل إلينا أنّ “جزر” ليس “فيلماً مصرياً”، بل إنّه “فيلم” في الأساس وبعد ذلك يمكن القول أيضاً إنّه فيلم مصري بامتياز. مصري في تعامله مع مكوّنات البيئة المحليّة وفضائها المديني المهمل وتفاعلاتها الاجتماعية ومكبوتاتها وطريقتها في التعامل مع هذه المكبوتات.
وإن كانت ثيمة وحدة الإنسان وغربته، فكرةً قام على أكتافها إنتاج فنّي لا حصر له، فإنها تبدو في حالة “جزر” موضوعة قابلة لتقديم سرد جديد يخرج من راهنيته ومحليته نحو لغة لا تحدّها محلّيتها. على المستوى التقني، اجتمع سيناريو متماسك مع أداء مقنع للممثلين، وجمالية في المشاهد والتصوير (على رغم أنّ أجزاء منه تمّت من دون إضاءة بسبب ظروف الإنتاج المتقشّفة).
ما يثير الإعجاب في “جزر” هو الاستغناء عن “فولكلور” الإسكندرية وعدم “استثمار” أي من “أيقونات” المكان أو “صور” المدينة الجاهزة. وهو بهذا الاستغناء قدّم الإسكندرية بعيون واحد من أبنائها اليوم: بنظرة صحية وجريئة. وهي نظرة ــ على نقديتها وخلوّها من الغنائية ــ تقدّم الإنسان المصري بشكل يحترم إنسانيته. ولا يستعيض عن ذلك بالرتوش الغنائية، التي مارستها لعقود، “سينما” نمّطت الإنسان المصري وغطّت ذلك التشويه بمنظومة غنائية “تمجّده”، بينما هي في الحقيقة تسلخ إنسانيته!