وائل عبد الفتاح
في الأيام الأخيرة، لم يرَ أحمد زكي إلا الظلام. أسبوع ضحك فيه على كل من حوله، يستيقظ في الصباح ويطلب تشغيل التلفزيون، ثم نظارته والصحيفة. وعندما يقترب صديق، يعرفه من صوته، فيبالغ في التعرّف إليه. تنجح اللعبة، ويرى أحمد زكي... إلى أن طلب خلوة مع الطبيب. “أشعر أنني ألعب دور طه حسين” قالها... ودخل في غيبوبة أخيرة.
هل قرّر أن يسير لتلتقي أسطورته مع عبد الحليم؟ ميديا كثيرة لعبت على التشابه، وأقدار كثيرة أكدته، حتى نهايتهما كانت متشابهة. اجتمعا معاً في اليتم والوحدة المؤلمة. وغاب قبل 3 أيام من موعد غياب حليم. وبعد قصة مصوّرة على سرير المرض انتهت في الربيع (رحل أحمد زكي في 27 آذار 2005)... لتشتعل المشاعر المتطرفة. وعندما ظهر فيلم “حليم” في الأسواق لعبت الدعاية على اللقاء بينهما: “أسطورة تجسّد أسطورة”. دعاية أخرى لعبت على الدموع والأسى... مشاعر تحتفي بها الكاميرات مع خلفية من أغنية شجن للعندليب الأسمر، وتقطيع على مشاهد آخر حفلة ظهر فيها أحمد زكي. والمخرج شريف عرفة المحترف في لمس مشاعر الجمهور، ركّز على النجم المرهق وهو يلوّح بيده تلويحة وداع، مرةً في الحفلة ومرةً في الفيلم... ومشهد الفيلم هذا كان آخر لقطة له أمام الكاميرا قبل أن يدخل الغيبوبة ثم التابوت الذي ظهر في النهاية.
قبل المرض، لم يكن أحمد زكي في موقع الأسطورة. المرض حوّله الى أسطورة، هي أقرب الى “مصالحة الموت”. الموهوب الخارج على التقاليد، والعصيّ على التصنيف في علبة اجتماعية. نجم ضد النموذج العمومي. يختلف عن عبد الحليم، جامع القيم ورمزها، موحّد الأخلاق والمشاعر، المنتمي الى عصر “الكل في واحد”.
لم يكن أحمد زكي الصاعد من بين شقوق الطبقة الوسطى في عصر تفكّكها، هو الرمز. كان بعيداً عن السلطة بمعناها الثقافي والسياسي. هكذا من دون وعي، وبموهبة فرضته على معايير الذوق المنسجم للنجوم والأساطير.
هذا التحدي جعله خارج السلطة حتى لحظة المرض. وقبلها بقليل، لحظة الخوف من النسيان مع صعود “نجوم الحظ والصدفة” في سينما السنوات الأخيرة. الخوف دفعه الى الاحتماء بسلطة الرموز السياسية. يستمدّ حضوره من طغيانهم في الذاكرة. ولأنه متطرف، أصابه هوس تأميم الرموز. بعد ناصر والسادات، حليم الذي أحياه غرام أحمد زكي حتى النفس الأخير. وبقيت أحلامه معلّقة في تمثيل الشيخ محمد متولي الشعراوي، النجم الديني للمجتمع المصري من الثمانينيات الى اليوم، هو أسطورة أيضاً يرى فيها المجتمع صورته.
كان غريباً أن يحلم أحمد زكي بالشعراوي. وكأنه يخاف من النسيان، يرغب في الخلود داخل اللحظة المرتبكة. الرغبة في الخلود أرجعته الى الثقافة العمومية، والمشاعر العمومية... وإلى تقديم فيلم عن “الضربة الجوية”، وصاحبها الرئيس مبارك.
وكانت لحظة المرض مناسبة لتقام جسور مع السلطة: اتصالات وطائرة. الرئيس حاضر في التفاصيل، يقنعه بالسفر، ويطمئن على جرعات الدواء... أحمد زكي، ابن الجميع، يلقى رعاية من الرئيس “أبو الجميع”. هي مصالحة الموت. الذوبان في تيّار التديّن العام. تنشر الصحف عن زيارات شيخ من الدعاة الجدد له، الشيخ خرج من غرفة زكي ليقول إنه قرأ عليه دعاء التوبة، وإنّه ردده خلفه. الصحف قالت أيضاً إن أقرب شخصية إليه في أيامه الأخيرة كانت خادم مسجد المستشفى. استسلام لرغبة الخلود. وطقوس موت جاهزة. واحتفاء... لا يختلف عليه اثنان على رغم أن حياة أحمد كانت موضع اختلاف. وهذا سرّ توهّجها ربّما.