فرح داغر
“محبوس يا طير الحق قفصك حديد وأنين، قضبانه لا بتنطق ولا تفهم المساجين، قضبانه لا بتعرف ولا تفهم الإنسان، ولا الحديد ينزف لو تنزف الأوطان”. الكلمات للشاعر عبد الرحمن الأبنودي والأهزوجة من أغنيات حفرها فيلم “البريء” في البال، في ذلك الغور الإنساني الذي يرتجف لشدة الظلم والقهر ووحشية التعذيب. في عام 1986، قدّم الراحل عاطف الطيب فيلمه هذاليتوّج به ثلاثية عُدّت من تحف الثمانينيات السينمائية في مصر: “سواق الأوتوبيس” و“الحب فوق هضبة الهرم”، ثم “البريء”. كان أيضاً تكريساً لعلاقة فنية ربطت بينه وبين أحمد زكي، حتى وفاة الطيب منتصف التسعينيات. احتشد وزراء الدفاع والداخلية والثقافة لكي يمنعوا عرض الفيلم الذي كتبه وحيد حامد. لكنّه عُرض في النهاية، بشرطين: أن توضع لافتة في أول الفيلم تعلن أن “الأحداث لا تجسّد الواقع”، وهو ما نفّذه الطيب متحايلاً، وأن يقطع مشرط الرقيب مشاهد كثيرة، وهو ما اعترض عليه المخرج، وانتهت الأزمة بتسوية ذهبت ببعض المشاهد وأبقت أخرى. لم يعرض الفيلم من دون تقطيع ورقابة حتى نيسان 2005 في مهرجان السينما القومي، تكريماً للفنان الراحل أحمد زكي. وقد فازت “إي آر تي” بهذه النسخة.
عدّه النقاد فيلم “النبوءة”، لما أشار إليه من قهر تمارسه السلطة وأجهزة الأمن على المجنّدين وثوار الرأي، وتمرّد هؤلاء ما لبث أن تحقق بعد عرض الفيلم. انفجرت أحداث ما سمي “انتفاضة الأمن المركزي”. خرج الجنود من دور العرض ثائرين ساخطين على الأوضاع المهينة، الأمر الذي دفع بالرقابة الى إحداث مزيد من “النهش” في مشاهد الفيلم، بتراً وتشويهاً.
من الريف يبدأ الطيب. أحمد سبع الليل (أحمد زكي) فلاح بسيط “أي حمار سباخ بيفهم أحسن منه” لكونه “دهل”، ينضم الى الجندية، ويشارك في عملية تعذيب يتعرض لها سجناء يقال له إنهم “أعداء الوطن”، الواجب دهسهم تحت جزمة القائد توفيق شركس (محمود عبد العزيز) وسياط مساعده الضابط (حسن حسني). سرعان ما يكتشف الخديعة، حين يأتي الى المعتقل “بلدياته” حسين (ممدوح عبد العليم في واحد من أهم أدواره السينمائية)، ويخبره بالآتي: “ضحكوا عليك يا سبع الليل... وطنك هو بلدك، عدو بلدك له شكل تاني، كلامه غير كلامك، بيرطن بلغة ما تعرفلهاش معنى، عدوك عايز يسرقك وينهبك، بيفرح إذا إنت بكيت وبشبع لما تجوع، اللي هنا أهلك وناسك يا أحمد”. لحظة الوعي تصدم الفلاح “البريء”. يسترجع صوت “الدكتور” الذي مات على يديه: “أنا قتلت واحد منهم، قللي إنت حمار، ما إنتش فاهم حاجة”.
مع نادية شكري، المونتيرة المبدعة، قدم الطيب فيلماً سلساً، كما الألم حين يتسرب إلى القلب قابضاً عليه، وكما الغصة تنتهك الحلق، عبر حركة كاميرا رشيقة، ألقت بوهجها على مفردات المكان: القضبان، الحراس، الكلاب، الأسوار، الأسلاك الشائكة، العزلة... لعبة النور والظلام استُخدمت على الشكل الأمثل، تماماً كما الراحل أحمد زكي الذي قدم مجموعة من المشاهد عكست قدرة هائلة على الأداء الداخلي الذي تميّز به. إنه ممثل يعرف كيف يغيّر حتى مشيته طبقاً لتغيّر مزاجه ووعيه. وحين ينفجر في النهاية، يتحوّل الفلاح الى مارد، ويقدم زكي أداء على هذا المستوى. الموسيقى لعمار الشريعي، ويشارك في الفيلم أيضاً: إلهام شاهين، جميل راتب وصلاح قابيل. أغاني الفيلم وموسيقاه محمّلة على مواقع الإنترنت، بينها: www.sawari.com
يُذكر أخيراً أن قناة “إي آر تي” التي تعرض الفيلم هذا المساء، خصصت هذا الشهر لتكريم الراحل عبر تقديم مجموعة من أفلامه، بينها “البريء”، و“الليلة الموعودة” الذي يعرض يوم الخميس المقبل في التوقيت نفسه.

21:30 على «إي آر تي افلام 1»