حسين بن حمزة
  • روائيّون وشعراء يجيبون عن تجاوز الذات بين عمل إبداعي وآخر

    في لعبة التجاوز، الكاتب هو الخاسر الأكبر. حصان تطارده المراهنات، وتتربّص به المعايير الباردة، وتنتظره غالباً عند خط الوصول الأحكام المسبقة ذاتها. ماذا لو تركناه وشأنه... وحده مع لغته وأدواته وأشباحه؟

    هل تجاوز الأديب الفلاني نفسه في كتابه الجديد؟ إلى أيّ مدى تخطّى ما كان قد توصّل إليه عمله السابق؟ سؤال مألوف نسمعه في كل مناسبة... يطرحه النقّاد (والقرّاء؟)، مع كلّ إصدار لهذا الكاتب أو ذاك. أوّل فكرة تخطر في البال، هي مقارنة العمل بما سبقه، لمعرفة ما إذا كان صاحبه قد تطوّر أو تراجع. معظم النقّاد يعاملون الكتّاب كأنّهم أحصنة في ميدان سباق. يبدو التطوّر ــ أو التجاوز ــ أمراً مطلوباً، وشرطاً بديهيّاً من الشروط الملازمة للعمليّة الإبداعيّة... وعدم تحقّقه يدفع أصحاب المرجعيّة إجمالاً إلى التقليل من شأن الكاتب واتّهامه بأنّه “لم يأتِ بجديد”. لكن من أين جاءت هذه الفكرة؟ وكيف صارت من المسلّمات غير القابلة للنقاشالكاتب يتغير طبعاً، لكن هل يكون التغيّر حتمياً في اتجاه التجاوز؟ لمَ لا نفترض، مثلاً، أن الكاتب يتغيّر داخل نفسه، داخل لغته وأسلوبه؟ كيف نتغاضى عن فرضيّة أن التطوّر قد يصيب التفاصيل، وليس الجوهر بالضرورة؟ ما هو جوهري في عمل الكاتب يظهر منذ الكتاب الأول... وقد لا تحدث التحوّلات كلّ صباح. هناك من يعتبر أن اللغة جلد، وكذلك الأسلوب، الباقي تفاصيل وتدرّجات وأطياف ومهارات وحِيَل. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل ينجز الكاتب كتاباً واحداً أم كتباً عدة؟ وهل عليه أن يكون كاتباً واحداً في كل إصداراته... أم كاتباً مختلفاً في كل كتاب جديد؟
    يرى محمد أبي سمرا “أنّ ثمة تغيّراً يحصل بين كتاب وآخر. هذا التغيّر له علاقة بالزمن وبالكاتب نفسه، لأنّ مقاربته للعالم تختلف حتماً من كتاب إلى آخر. وإلّا فما الذي يدفعه إلى كتابة عمل جديد؟”. وعن تجربته، يقول أبي سمرا: “كتابتي اختلفت. في روايتي الأولى “بولين وأطيافها” كانت لغتي تفتّش عن نفسها وتجد نفسها بصعوبة، وفي “الرجل السابق” بدت اللغة أكثر متانة. أما في “سكان الصور” فقد كتبت شيئاً جديداً أظن أنني لم أكن أستطيع كتابته من قبل”.
    علوية صبح تفرّق بين “لغة الكاتب التي تشكّل هويته، وينقلها معه من كتاب إلى آخر... وبين الأسلوبية التي تتغير وفق مستويات السرد، ونوعية الشخصيات الموجودة في الرواية. اللغة تختمر، تتطور، لكنّها تحافظ على طبيعتها الأولى”. وتؤكد صبح أنّها لا تفكر في التجاوز أثناء الكتابة، ما يهمّها هو خلق نقلة أسلوبية أو مضمونية. ففي روايتها الأولى “نوم الأيام”، كان التداعي اللغوي الشعري والشخصي يتسيّد اللغةأما في “مريم الحكايا” فقد ذهبت إلى نبرة أخرى تحتفظ بنبض جملتها السابقة، لكنّها تنتقل إلى فضاء مختلف لم تعد الذات فيه هي وحدها البطلة. ثم تطورت الحالة أكثر في روايتها الأخيرة “دنيا”، حيث ازدادت اللغة كثافةً وتعددت مستويات السرد. وتقول صبح: “أنا لم أغيّر لغتي، بل راكمت جملتي وأسلوبي. هناك من يقول إنّ كل كاتب ينجز كتاباً واحداً، وهذا يعني أنّ هناك ما هو مشترك بين كلّ ما نكتبه. هذا المشترك هو لغة الكاتب. خذ ماركيز مثلاً، ستجد أنّ له لغة واحدة وعالماً روائياً واحداً... رغم اختلاف موضوعاته وتقنياته”.
    إذا كانت هذه حال الرواية، فإن معاينة التغيّرات التي تحدث للغة الشاعر ونبرته تبدو أكثر صعوبة وتعقيداً، ليس لأنّ الشعراء أكثر حساسية وتطيراً تجاه اللغة فحسب، بل لأنهم يقيسون بدقة متناهية التغيرات التي قد تخضع لها لغاتهم. إذ لا يوجد في القصيدة شخصيات أو سرد، ليس هناك سوى الشاعر نفسه.
    عباس بيضون يردّد غالباً أنّ بعض القراء يؤكدون له أن ما يكتبه ليس قصيدةً واحدةً، وأنه في كل واحدة من مجموعاته الشعرية يبدو مختلفاً بهذا القدر أو ذاك عن ذاته الشعرية. الأرجح أنّ اعتراف بيضون، رغم أهميته، لا يقدم الصورة الحقيقية عن شعره الذي بدا منذ مجموعته الأولى “الوقت بجرعات كبيرة” ذا لغة محايدة ومسنّنة ودقيقة تتجنّب العاطفة الزائدة.
    ولعلّنا نجد شيئاً قريباً من حالة عباس عند الشاعر الأردني أمجد ناصر الذي انتقل من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ثم إلى النص النثري الذي يُكتب على سطور كاملة..لكنّه نقلَ معه عبارته الشعرية ذاتها. صحيح أنّ هذه العبارة تعرّضت لتطورات وتدرجات أسلوبية فرضتها موضوعات الشعر نفسه، إلا أن الضربة الأولى لتلك اللغة التي بدأت في “مديح لمقهى آخر” ظلّت تلمع في مجموعات أمجد اللاحقة.
    أما بسام حجّار، فيرى أنّ الشاعر يهوي كلما توهّم الصعود، وأنه في كل ما يفعله لا يتجاوز ما فعله سابقاً ولا يتفوق على نفسه. ويضيف أنّ الشاعر إذا أحسّ أنّه بلغ ما يظنه النهاية، فهو سرعان ما يكتشف أنه عاد أدراجه إلى البداية ذاتها، لينكبّ على استكشافها مجدداً. يقول بسام: “أنا أعلم أنني، منذ البداية وحتى النهاية، أكتب كتاباً واحداً. والمستجد هو الاستدراك. لولا الاستدراك لأضحت العبارة صنماً. كتبي جميعها هي استدراك لما سقط سهواً في اقتفائي الأثر المستحيل لما لا يترك أثراً”.
    وينقل أنطون أبو زيد الموضوع إلى حيّز آخر. ويحدّد مدخلين للجواب عما إذا كان الشاعر يتجاوز نفسه: “الأول يندرج في ما يُسمى أسطرة الذات، أي تصوير الشاعر نفسه ــ لا لغته الشعرية ــ على نحو يتجاوز المألوف، تمييزاً له عن العامة، وفي هذا التفاف مسبق من الشاعر لمنع القارئ من إطلاق حكم قابل للقياس. أما المدخل الثاني، وهو الحقيقي برأيه، فيتعلق بالصنعة الشعرية التي تبلغ لدى بعض الشعراء حدّ الاحتراف. والتجاوز، في هذا الشأن، لا يعدو كونه توالداً لأساليب ونبرات وبنى لقصائد من نسيج اللغة الشعرية عينها”. ويستشهد أبو زيد بديوان عباس بيضون الأخير (ب ب ب)، مؤكداً أن بنية قصائده كامنة في بعض أعماله القديمة، ولا سيما مجموعته “زوار الشتوة الأولى”. ويرى الأمر نفسه في عمل بسام حجار الأخير “تفسير الرخام”، مؤكداً أنّ القصائد/ الأناشيد الموجودة في الكتاب هي تنمية بنيانية لقصيدة التداعي الطولية التي اعتمدها في مجموعتيه الأولى والثانية: “مشاغل رجل هادئ جداً”، و“لأروي كمن يخاف أن يرى”.