strong>حسين بن حمزة
  • عــزّة شــرارة بيضــون تفكّــك النمــطيّّة الجـنــدريّـة

    تقف عزة شرارة بيضون في “الرجولة وتغير أحوال النساء” (المركز الثقافي العربي)، على نتائج المكتسبات النسائية التي نسفت سلطة الذكر التقليدي. ندوة «كتاب الشهر» بحضور عالمة الاجتماع اللبنانيّة، هذا المساء في “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”

    النساء يتغيرن، فما هي أحوال الرجال؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي تطرحه الباحثة عزّة شرارة بيضون في كتابها الجديد “الرجولة وتغير أحوال النساء” (المركز الثقافي العربي)، بعد عقود من النضالات النسوية ضد كل أشكال التمييز الجنسي. تتعقب بيضون تأثير المتغير النسائي في الرجال، وحجم (ونوعية ونسبة) التعديلات التي طاولت سلوك الرجال وهوياتهم الذكورية، وانعكاس ذلك على تصوراتهم عن ذواتهم.
    في كتابها الذي يناقش في بيروت هذا المساء، في “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي”، بمشاركة د. رفيف رضا صيداوي، ود. كمال بكداش، تنطلق صاحبة “صحة النساء اللبنانيات بين أهل العلم والدين” (1998) من الفكرة التالية: الرجولة تغيرت، بفعل التهديدات الجبرية التي رافقت النضال النسوي، أو بفعل رغبة الرجال في تبديل بعض سلوكياتهم طوعاً. وفي الحالتين، كان الرجل يحاول أن يتكيف مع التغيرات النسائية في كل مجالات الحياة، ووصل الأمر أحياناً إلى تبني بعض الرجال سلوكيات نسائية، كما هي الحال في عمليات التجميل وتغيير الـ “look” في السنوات الأخيرة.
    لقد تلقّى المعطى الذكوري البيولوجي ضربات مؤلمة بفعل هذه المتغيرات. لم تعد الرجولة بمعناها القديم سمة بديهية يحصل عليها الرجال بمجرد ولادتهم، وتضمن ديمومة سلطتهم. بل إن شرائح ملحوظة من الرجال ما عادوا راضين بالأدوار الذكرية التي تكفلها لهم الثقافة السائدة. هكذا فإن “الجندر” الذكوري ــ أي النوع الاجتماعي أو الجنسي ــ بات مجبراً على الاستجابة والتأثر بالممارسات الجديدة التي فرضتها التغيرات النسائية. وبحسب تعبير عزة بيضون، فإن “الأشخاص يصنعون الجندر في عملية تفاوضية لا تهدأ، أي إن الجندر ليس ما يتم فعله بنا فحسب بل هو ما نصنعه نحن بأنفسنا، وذلك لأننا نقوم، على الدوام، بخلق وإعادة خلق هوياتنا الجندرية في سياق تفاعلاتنا مع الآخرين، وفي إطار المؤسسات الاجتماعية التي تضمّنا”.
    اليوم، وفي زمن العولمة وثورة الاتصالات وتداخل الثقافات، يمكن معاينة التغيرات التي تحكم سلوك الرجال بسهولة. صحيح أنّ الرجال لم يتخلوا عن هوياتهم الأصلية، لكن نسبة كبيرة منهم، وخصوصاً الأجيال الشابة، لم تعد السمات الذكورية التقليدية تلائم طبيعة حياتهم الحديثة. لقد خضعت هوياتهم وأدوارهم وسلطاتهم لتعديلات، كي لا نقول تنازلات، جوهرية. وبات بعض هؤلاء يشتكون من عجزهم عن (أو عدم رغبتهم في) التحلي بصفات ذكورية منمطة، مثل القوة والصلابة والعدوانية. لقد أدركوا أنّ الذكورة بوصفها مفهوماً معاكساً (ومعادياً أحياناً) للأنوثة، هو تعريف خاطئ لهوياتهم. ولذلك تؤكد بيضون، مستندة إلى أبحاث عديدة، أن هناك أزمة في الذكورة تتجلى في تحولها إلى مصدر للألم في حياة الرجال لا مصدراً للقوة، وأن صورة الرجل المعاصر قد تغيرت بطريقة دراماتيكية، قياساً إلى الذكورة الفطرية أو الحتمية.
    لقد نسفت المكتسبات النسائية سلطة الذكر التقليدي التي كان يتوهم أنها عصية على الاهتزاز. الرجال الذين نشأوا في المجتمعات البطركية على تبجيل ذكورتهم، ونفي الأنوثة من هوياتهم، يعيشون اليوم حيرة وجودية تتمثل في تراجع الأسباب التي كانت تجعلهم مصدر فخر لآبائهم، ومصدر فخر لأنفسهم أيضاً. إذا كان الرجل يبدو ضحية لحركة تحرر المرأة التي رفضت خضوع النساء (وهو الشرط الضروري لتحقيق ذكورته وتألقها)، فذلك لا ينبغي أن يكون ــ تنبّه بيضون ــ دعوة إلى سلب ما حققته المرأة بنضالها على مدى نصف قرن مضى.
    لكن مهما كان سبب أزمة الذكورة، فقد اتخذ وعي وجودها، والتعامل معه، أشكالاً متنوعة. والأهم في هذه الأزمة هو إمكان الحديث عن ذكورات، وليس ذكورة واحدة. ففيما توزع الأيديولوجيا الأصولية الأدوار الجندرية على دائرتي الذكورة والأنوثة التقليديتين، جاعلة الذكورة في مقام أعلى، فإن الأيديولوجيا “ما بعد الحداثية” تدعو إلى إلغاء البناء التفضيلي المحمول على نظريات الحتمية البيولوجية أو الاجتماعية. وفي هذا السياق، يبرز المثال “الأندروجيني”، أي الفرد القادر على استيعاب الأدوار الذكرية والأنثوية بشكل متكامل. ويتفق الباحثون على أن الأندروجينيين هم أكثر توافقاً وسوية في ميزان الصحة النفسية من نظرائهم المنمطين.
    بهدف ربط الجانب النظري بالممارسات والثقافات الاجتماعية لموضوعها، تقوم بيضون بإجراء تطبيقات ميدانية على عينات من طلبة الجامعة. ورغم أنها تشير إلى أن الباحثين غالباً ما يؤخذ عليهم نزوعهم إلى اختيار الطلبة موضوعاً لدراساتهم، وميلهم إلى تعميم تلك الدراسات على فئات أخرى من المجتمع، فإنها تقبل بهذا المأخذ، وتحذو حذو غيرها من الباحثين، مبيّنة أنّ هؤلاء الشباب أكثر حساسية للتحولات التي تتعرض لها مجتمعاتهم. هكذا، تختار عينات من طلبة الجامعات اللبنانية الخاصة والرسمية، لدراسة السمات الذكورية والأنثوية التي يشترك هؤلاء الشبان في عزوها لذواتهم بالدرجة الأولى. ثم تدرس الصفات المفضلة لدى الطرفين في اختيار الشريك المستقبلي، من أجل مقارنة ذلك بالتصور الذي تحمله الشابة لذاتها، ورصد حساسية الشاب للتعديلات التي طاولت هوية الشابة اللبنانية المعاصرة ومدى استجابة تمثلاته الجندرية لهذه التعديلات. وتكشف النتائج أن النسبة الأكبر من الشبان والشابات يملكون عن ذواتهم صورة غير منمّطة، والأمر نفسه بالنسبة إلى تفضيلاتهم لشركائهم. ويضع البحث في تصرّف القارئ نتائج الدراسات الميدانية بالأرقام والنسب، وكذلك التصورات التي يمكن تبنيها استناداً إلى تلك الدراسات.
    وبعد المعالجة النظرية والبحث الميداني، تخلص الباحثة إلى أنّ هناك نزوعاً عاماً إلى تجاوز المنمطات الذكرية والأنثوية، مع فروق وتفاوتات تبعاً لطبيعة المجتمع المدروس. وبحسب ذلك، فإن المجتمعات العربية لا تزال الأقل استجابة لمثل هذه التغيرات... مثلما هي أقل استجابة في قضايا معاصرة عدّة!