القاهرة | هل صار لزاماً علينا أن نقبل المصير ذاته؟ بهذا المفتاح يحاول التشكيلي المصري إسلام زاهر (43 سنة) صوغ عالم معرضه «وردي ومراثي» الذي يستمرّ في «غاليري مصر» في الزمالك حتى 14 أيار (مايو). في هذا المعرض، يحاول زاهر تقصي انفعالات خاصة تقوده نحو مجموعة من الشخوص المستسلمة لمصير محتوم، ليس فيه مفاجأة سارة. وجوه غير مكتملة، مشوهة، تحمل باقات ورد أشبه بكفن. اللون تحول بكافة شغفه ودرجات ألوانه إلى مولّد للخوف والتوتر. الظلام يحيك حكايات لا تنتهي، والوجوه تنظر بيأس إلى نهايات محتومة. بداية من عنوان المعرض، يبدأ المتلقي بطرح مجموعة من الأسئلة: ما الذي يمثله الوردي هنا؟ ثم ما علاقته بالمراثي؟ في إحدى اللوحات (IZ19 ــ زيت على قماش) يطالعك زاهر بشخصية ذات ثوب وردي تقبض على باقة من الورود لكنها تبدو مشوشة، ومأزومة بوجودها الذاتي في خشونة واضحة للألوان المستخدمة التي توحي بفقر الدفء والمشاعر.
هوّيات غير مكتملة وناقصة تفتقد للتواصل مع مجريات العالم المحيط الذي يتصف ببشاعته وقسوته.
علاقة فنية خاصة يصوغها زاهر بين ما هو لغوي (مراثي) وما هو بصري (وردي). علاقة ترزح تحت وطأة عالم تغلب عليه العزلة وفقدان القدرة على الكلام. في لوحة أخرى (IZ18)، يؤكد زاهر فكرته عن تحول الوردي إلى حالة من المرارة واليأس، فالوجه هنا متماهٍ تماماً مع الصمت المطبق على المكان، والأيدي تبدو كأنها لازمت الجيب في كناية غير مباشرة على العجز والاستسلام. ظلّ زاهر مهموماً بالأفكار التي قرأها عن سلمندر الماء الوردي الذي نشأ على اليابسة، لكنه في حقبةٍ ما – وبلا سبب واضح – فضّل النزول إلى قاع الماء ليعيش حياة الظلمة الباردة. ولما كان الظلام هو سيد الموقف في القاع، أصبحت عينا السلمندر المسكين بلا فائدة فانطمستا. كما نبتت له خياشيم بدلاً من فتحتي الأنف، وزعانف رقيقة بدلاً من الأصابع.

رصد لجماليات
الجسد في حالات ضعفه وانكساره
أصبح التكيّف الآن هو سيد الموقف بالنسبة إلى حياة السلمندر في القاع. بهذه الأسطر البسيطة، يسلّط زاهر ضوءاً كاشفاً على الخضوع للمصير المحتوم، وتهيئة نفسك لترفل ثوب سعادتك المهلهل. يرى الناقد ياسر منجي أن زاهر لم يحاول أن يزايد على الحيل التقنية أو أن يستعرض ألاعيبه اللونية، حتى في الأعمال التي قارب فيها تخوم اللون. إنّه يفضّل المحافظة على أحادية مونوكرومية غالبة، يرفع فيها شأن القرمزي الصادح بنبرات الموت والغياب والفقد.
أما في لوحة «IZ12» (ألوان مائية وأحبار ملونة على ورق)، فيبدو الخطُ وثاقاً يقيّد الشخصية ويمنعها من الحركة والحديث.
هل أصبحت الهوية عبئاً على صاحبها؟ يقول الشاعر السوري أدونيس: «حاضناً سنبلة الوقت/ ورأسي برج نار:/ ما الدم الضارب في الرمل/ وما هذا الأفول؟/ قل لنا يا لهب الحاضر/ ماذا سنقول؟/ مِزق التاريخ في حُنجرتي/ وعلى وجهي أمارات الضحية/ ما أمرّ اللغة الآن/ وما أضيق باب الأبجدية». تنويعاتٌ عدّة على الشِتات وفقدان التواصل. وبالرغم من تنوع الخامات المستخدمة بين الزيت، والألوان المائية، والأحبار الملونة، والطباشير على القماش والأوراق، إلا أنها تبدو موظفة بشكلٍ جيد لخدمة الثيمة الأساسية للمعرض. هناك ملمح آخر يبدو جلياً في هذه المجموعة البصرية، ألا وهو جماليات الجسد البشري. استلهم زاهر الجسد البشري، ورصد جمالياته الخاصة في حالات ضعفه وانكساره، فأصبح قريباً من المومياء التي تُلف في قماطٍ أبيض. ورغم أن هذا الجسد له قوانينه الخاصة التي تحكمه بمحيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي، إلا أن زاهر جعله مادةً خصبة قابله للتأويل والتشريح كجسد أرنب أبيض.
في لوحة IZ06 (فحم وطبشور أبيض على ورق)، يبدو الجسد البشري مرهوناً بقيد غير مرئي. كلّما حاول أن يفلت من براثنه فشل، وعاد مرةً أخرى إلى سكونه السابق. تجربة فنية فريدة تمتاز بالخصوبة والمغامرة حاول من خلالها زاهر أن يمزج بين عمق التنظير وعفوية الإبداع. فالثوب الوردي الذي كانت تخيطه الفتاةُ، أصبح عتبة لتجربة فنية تحاول أن تتبع مصير الإنسان وتتقصى ابتسامته الذابلة.

* «ورديٌ ومراثي»: حتى 14 أيار (مايو) ــ «غاليري مصر» (الزمالك، القاهرة) للاستعلام: 0227350604