حسين بن حمزة
ثمة شعر كثير يُكتب في مصر اليوم. أغلب الشعراء الجدد هناك يفضّلون قصيدة النثر في التعبير عن أصواتهم ونبراتهم الشعرية، إلى درجة أنّ تلك القصيدة باتت الشكل السائد وشبه الوحيد في الشعر المصري الراهن. لكنّ هذا لا يعني أنّ الجميع يكتبون القصيدة عينها أو أنّ ممارساتهم الشعرية تتحرك في العوالم نفسها. فنظرة متمعّنة ستكشف أنّ المشهد الشعري ليس كتلة واحدة بل يتوزع على تيارات وأمزجة وتدرجات كثيرة، وأنّ الشعراء أنفسهم يكشفون عن طموحات وأساليب وأصوات مختلفة.
محمود قرني واحد من هؤلاء. مجموعته الجديدة “أوقات مثالية لمحبة الأعداء” (دار ميريت ــ القاهرة) هي السادسة له. ومتى علمنا أنّ مجموعته الأولى صدرت عام 1996، سنتأكد من أنّه شاعر غزير الإنتاج.
قد يكون لهذه الغزارة ثمن سلبي أحياناً، وقد تتناسب عكساً مع جودة القصيدة وكثافتها وتماسكها البنيوي واللغوي. ليس هذا ما يحدث بالضبط في كتابة محمود قرني. إلا أن ثمة استطرادات لازمة وغير لازمة في قصائد مجموعته الجديدة. الاستطراد قد يوقع القصيدة في النثرية المفرطة، ويجعلها أقرب إلى السرد العادي الذي لا يحفل بمتطلبات الكثافة والتماسك والضربات الاستعارية والأسلوبية السريعة التي ينبغي أن تتوافر عادةً في الشعر. قد لا يكون ضرورياً لكلّ شعر أن يكون كثيفاً ومتماسكاً، لكنّ هذه الصفات يمكن العثور عليها حتى في أشد الأعمال نثرية واستطراداً، شرط أن يكون ذلك في مصلحة القصيدة لا ضدها.
هناك طاقة تصويرية لافتة عند محمود قرني الذي يفضّل غالباًَ التنامي السردي لموضوعاته. وهو لا يتوانى عن استخدام أي فكرة أو عبارة ما دامت، في رأيه، تفيد هذا التنامي وتلائم نبرته. ولهذا لا يستغرب القارئ أن يجد سيرة شبه شخصية لأبطال قصائده، وأن تختلط هذه السيرة بمفردات ذات حضور معجمي ثابت، كما هي الحال حين يقول: “الوطن الآن ينام قرير العين / بينما شخيره يُضجر الملائكة / الوطن ينام دون عساكر الدرك / دون نوبات حراسة / حيث لم يعد هناك / ما يخشى عليه / لقد أصبح عارياً كما ولدته أمه / وليس هناك من يستر عورته”.
السياسة، بمعناها المتداول، تتسلل إلى أكثر من قصيدة في المجموعة. نقرأ شيئاً عن التاريخ والثورة العربية والثوار الجياع والزعماء... ونقرأ في قصيدة “هولوكوست” عن صديق فلسطيني: “ها هم الرفاق / يحفظون أشعاره عن ظهر قلب / ويتغنّون خلفه بامرأة المسيح / الجميلة الفاجرة / التي يسمونها فلسطين”.
ينجح محمود قرني في جعل كل ذلك جزءاً من طموح شعري خاص. ليس لديه مشكلة في مزج كل هذه العوالم أو استثمارها في قصائده، حتى لو لم يعجب ذلك بعض القراء.