عبد الغني طليس لم تقف “الطماطم” التي أُلقيت عليه من جمهور إحدى الحفلات في بداياته الأولى، حائلاً دون استمرار إرادته القوية المؤمنة بهدف كبير هو احتراف الغناء. ولم تنفع مطالبة بعض الجمهور له في حفلة أخرى بالتوقف عن أداء أغنية خاصة به من أجل أداء أغان لبعض المغنين المكتسبين الشهرة يومها، في إدخاله خانة اليأس... على رغم أن هاتين الحادثتين قد ترخيان بظلالهما القاتمة على أيّ مغن طري العود، فتجبره على قرارات سلبية تجاه موهبته... حافَظَ عبد الحليم (شبانة) حافظ، على ذلك الإمداد السحري الذي كان يتلقاه من نفسه الأمّارة بالفن. ولعل ذلك الإمداد تحديداً هو الذي مكّنه في ما بعد من مقاومة بعض الأصوات الكبيرة كصوت أم كلثوم. هي حاولت أكثر من مرة التأثير ضده سواء في حفلات كبيرة بحضور شخصيات وطنية مهمة كالرئيس جمال عبد الناصر، مثلاً، وبعض معاونيه الكبار، أو في بعض المواقع والمناسبات الأخرى. وأثبت أنه صاحب قضية فنية، مستعدّ ليحفر طريقه في الصخر لا في التراب فحسب، فارضاً رؤيته الغنائية الجديدة التي كانت شبه مستحيلة قبله.
أدرك عبد الحليم حافظ، من اللحظة الأولى، أنّ صوته ليس كالأصوات التي كانت شائعة ومسيطرة في النصف الأول من القرن الماضي، وأن الجمهور الذي يبحث عنه ليس ذلك الجمهور الذي يتصرف تقليدياً إن لجهة الأغاني المحببة (لذلك الجمهور)، أو لجهة قماشة الأصوات “المطلوبة”. أي أدرك أنّه مغنٍ مختلف في نوعية أدائه، وفي نوعية أغانيه نظماً وتلحيناً، وفي نوعية الجمهور الذي يتوجه إليه. فكانت حاله كحال من يقود ثورة فنية حقيقية، من دون أن يدري أو من دون أن يقرر ذلك بالوعي والمعرفة والتخطيط. سيرته الغنائية والفنية كرّست ثوريته في ما بعد، وقدّمت البراهين على أنّه اخترق عصره بأدوات فنية من عصر جديد. وليس تعاونه بل بحثه الدؤوب عن شعراء الأغنية المجددين في أفكار الأغاني وصياغتها، وعن الملحّنين المجددين في تركيبة الألحان والجمل الموسيقية والضروب الإيقاعية، إلا استكمالاً للغة غنائية وفنية كانت تريد أن تلوّن الحياة الفنية ككل... لكن من دون أن تقطع مع الماضي بطريقة البتر أو الازدراء. لقد كان عبد الحليم حافظ، في الأغنية التعبيرية المهجوسة فطرياً بعناصر جمالية، أفضل جسر تواصل متين ربط مرحلة غنائية سابقة بمرحلة غنائية لاحقة. وبقدر ما كان ناهداً الى ابتكار خط فني خاص به، كان ناهداً للتعبير عن جيلين: جيل أسّس الأغنية العربية ونشرها بطاقات عالية إبداعياً، وجيل وضع أسساً لعالم غنائي مكمّل، مع كل ما في معاني الصراع بين الجيلين (وليس بالضرورة العمرين) من الحيوية والمنافسة و... الحروب. ومع كل ما في الحروب، تحديداً، من إصرار على توليد واقع مغاير ونشر قيم وأفكار ومعطيات تصدم العقل أحياناً، فضلاً عن العواطف.
في الجيل الأول، كان سيد درويش ورعيل مماثل في الثراء الفني تتابع مع أم كلثوم وعبد الوهاب ورياض السنباطي وآخرين ممن يسمّون “عمالقة” نظراً إلى إنجازاتهم الضخمة. وفي الجيل الثاني، كان عبد الحليم حافظ وبليغ حمدي ومحمد الموجي وشادية وعبد الرحمن الأبنودي، وغيرهم ممن يسمون “عباقرة” نظراً إلى مدى حملهم راية التغيير والتطوير.
إنها ذكرى رحيل عبد الحليم حافظ الثلاثين، (وافته المنية في 30 آذار 1977). لو كانوا لا يزالون أحياء أولئك الذين رموا “الطماطم” عليه ذات يوم غابر، فماذا يقولون الآن؟ سؤال لا ينعقد لواؤه إلا بسؤال آخر هو: كم لدى جيل القرن الحادي والعشرين من المغنين العرب مما كان لدى عبد الحليم، إن على مستوى الشخص وإن على مستوى الفعل في الزمن؟