دمشق ـــ خليل صويلح
  • قصائد غير مكتملة في متاهات الغواية والضوء

    امتدّ خيط الشعر بين دمشق والعالم، مثل خيط أريان الذي أنقذ تيزيه من المتاهة في الميثولوجيا الإغريقيّة. خمسة شعراء التقوا في “ورشة عالميّة” نجمها أدونيس، بحثاً عن مفاتن المدينة السريّة بين باب توما وضريح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي

    “إن الذات لا تولد في مسقط رأسها وحده، وإنما تولد في الآخر، كأن الآخر طريق للإنسان لكي يصل إلى نفسه”. بهذه العبارة اختزل أدونيس، مساء أول من أمس، جوهر فكرة “ورشة الشعر العالمي” التي استضافت دورتها الأولى “دارة الفنون” في دمشق. وأعلن صاحب “هذا هو اسمي” الذي تقام الورشة على شرفه: “بين دمشق وبيني مسافة هي مسافة الهجر، وفقاً لتعبير الشاعر أبي تمام”. وأضاف: “إن كل مدينة تشبه وردة، عطرها الثقافة والإبداع، ومن دون هذا العطر تتحول المدينة إلى وردة اصطناعية”.
    الجمهور الذي غصّت به خشبة “مسرح الحمراء”، أتى متعطّشاً لسماع قصائد جديدة للشاعر الكبير. لكنّ أدونيس اكتفى بقراءة مقطع قصير من شعره، أراده حواراً بين الطفولة والشيخوخة: “ذلك الطفل الذي كنت، أتاني مرة وجهاً غريباً. لم يقل شيئاً. مشينا وكلانا يرمق الآخر في صمت. خطانا نهر يجري غريباً، جمعتنا باسم هذا الورق الضارب في الريح الأصول، وافترقنا غابة تكتبها الأرض وترميها الفصول”.
    شعراء الورشة التقوا في دمشق، قبل أسبوع من هذه الأمسية، ليعيشوا تجربةً مثيرةً في فضاء المدينة القديمة وحواريها: يواكيم سارتوريوس من ألمانيا، وأنجيلا غارسيا من كولومبيا، ولاس سوديربرغ من السويد، وجريس سماوي من الأردن، وهالا محمد من سوريا.
    أن تكتب قصيدة عن مدينة تتعرف إليها لأول مرة بعد أيام قليلة من وجودك فيها، يبدو سؤالاً شعرياً صعباً وربما قسرياً. فالتجوال في أرجاء مدينة قديمة مثل دمشق، يحتاج إلى بوصلة دقيقة كي يكتشف المرء أين تكمن بذرة القصيدة... وأية ريح ستهب على الشاعر حتّى يلتقط رنين الكلمات. هل ستأتي العبارة من جهة سور قلعة دمشق؟ أم من مئذنة الجامع الأموي؟ أم في زقاق ضيق يكاد لا يتسع لمرور شخصين في حي باب توما؟ أم لعلها تختبئ قرب ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي عند كتف جبل قاسيون؟ وربما في معلولا، هناك بين الصخور الآرامية القديمة.
    “لا شك في أنّها قصيدة عصيّة” يعلّق الشاعر السويدي لاس سوديربرغ (1930). ويضيف “ما كتبته في هذه الأيام القصيرة عن دمشق هو انطباعات خاطفة تشبه الضوء السري المنبعث من وراء أبواب الخشب العتيقة، والجدران الرمادية وشقوق الصخر في معلولا. هكذا ستبقى قصيدتي غير مكتملة. إذ أجد نفسي مثل عابر سبيل في بلاد أزورها للمرة الأولى”. قرأ صاحب “حجارة أورشليم” مقاطع من قصيدته بمرافقة عازف القانون توفيق ميرخان، وعازف التشيلو موفق الذهبي: “ها أنا أمي مرة أخرى مثل الشعراء العميان القدامى، أسمع كل ما هو مكتوب. إن المآذن علامات تعجّب، حيث لا يوجد سوى السؤال”. سوديربرغ ظلّ مفتوناً بالأسرار المخبأة في البيوت الدمشقية القديمة، ينصت إلى همهمات اللغة وأحلام العابرين وابتهالاتهم وامتزاج الديانات، حيث “رجال يصلّون إلى قبلة التلفزة” وآخرون يهمسون “أنقذنا من البرابرة”.
    أما الشاعر الألماني يواكيم سارتوريوس (1946)، فالأمر بالنسبة إليه مختلف. لقد سبق أن زار دمشق واعتبر زيارتها للمرة الثانية، رحلةً إلى سحر الشرق وشمس الحضارات المتعاقبة”. فدمشق، على حد تعبيره، من المدن القلّة في العالم التي تختزن ثقافات متعددة. ويستدرك “نحن كأوروبيين أهملنا العالم من حولنا وآمل أن تمنحني الأيام القليلة هذه شحنةً جديدةً لكتابة قصائد أخرى غير التي أنجزتها للتو في دمشق. فمن العسير أن تكتب قصيدة لأنه عليك أن تكتب”. في قصائده الثلاث، خاطب الشاعر الألماني دمشق بخضرتها وألوانها الشاحبة وروائح أسواقها القديمة، لينتهي به المطاف عند ضريح ابن عربي: “على طرف المدينة ثمة قبة خضراء، تحتها يرقد ابن عربي في ضريحه وعلى لوح مضيء هائل تظهر أرقام أرجوانية تحدد بدقة مواقيت الصلوات الخمس”.
    وفي المرآة وجدت الشاعرة الكولومبية أنجيلا غارسيا (1957)، مفتاحاً لاكتشاف صورتها الأخرى، وهي تطأ دمشق للمرة الأولى، محمّلةً بمخزون من الكتاب المقدس وحكايات “ألف ليلة وليلة”... وإيقاع لغة إسبانية، تعتقد أنها شبيهة باللغة العربية. هكذا، وجدت نفسها في فضاء المدينة، كمن يقتفي آثار أمكنة وبشر التقت بهم في منام ملتبس وغامض، وعليها اليوم أن تفسر هذا المنام، وتفكّك خيوطه المتشابكة، لتقبض على السّر في مرآة ذاتها أولاً ومرآة الآخر. طالما أنّ الشعر هو من يختزل المسافات، ويمزّق الخرائط والحدود بين جغرافيا وأخرى، في امتحان الكتابة الآنية. تقول أنجيلا غارسيا “كتبت خلال إقامتي في دمشق قصيدةً واحدةً، استخدمت فيها المرآة كرمز لانعكاس مشاعري. إنّ هناك خيطاً رفيعاً يجمع البشرية كلها، بعيداً من الاختلاف في الأيديولوجيات والأديان، وهو خيط الشعر”. تقول في قصيدتها “مرآة دمشق”: “استيقظ من نوم هادئ مترددة في تحركاتي.لا أجد ثيابي بين الحقائب. صوتي يكاد لا يسمع. ورغم ذلك، في نفسي فطرة، أقدم من الليل. فلنعترف أنّ ذلك هو العشب الجاهلي الصامت الذي ينبت من الصخر، في منام لا يتوقعه أحد”. وتختتم قصيدتها في لعبة مرايا متبادلة “أما أنت، فإنك هنا بوجهك المغبر. في نظرتك اختصار لكل القرون الماضية. هواؤك المزيّن بنقوش عربية من صيحات السنونو”.
    المشاركة العربية في هذه الورشة تمثلت في صوتين هما: الشاعر الأردني جريس سماوي، والشاعرة السورية هالا محمد. بدت مهمة هذين الشاعرين أصعب في تلمّس هواء المدينة. إذ إنّ الكتابة عن مدينة تعرفها جيداً، أو تعيش في شوارعها وبشرها وتاريخها، مهمةٌ عسيرةٌ لالتقاط حالة شعرية في مخاض قسري، وخصوصاً بالنسبة إلى شاعرة سورية لطالما كتبت قصائدها في مسارب أخرى. شاعرة تعمل على اكتشاف الداخل، في رسائل برقية موجعة، تسائل الذات أولاً، فكان عليها هنا أن تستعير نصاً آخر، وعيناً أخرى لاكتشاف المدينة والدخول “في متاهات الغواية والضوء والظل والشبابيك العتيقة”. هكذا وجدت نفسها هالة محمد غريبة في بلادها... “كأنني عشت فيها من قبل”.