بيار أبي صعب
قد يكون 2006 عام الصدمات القاسية... لكنّه ليس على الإطلاق عام “الحياد”. إنّه ــ في الثقافة أيضاً ــ عام المواجهة. هكذا فجأة انهارت أسطورة السلام الأهلي المستعاد على عجل، تلك التي سمحت ــ طوال السنوات الماضية ــ بطمس الانقسامات وتغييبها وتأجيلها، فأعادت تشكيل المشهد الثقافي، وسهّلت تغيير المواقع والتحالفات والأدوار...
اليوم انقسم المثقفون في لبنان مجدداً، كما انقسم الرأي العام، بين خندقين: الأول “يحبّ الحياة” إذا شئنا أن نوجز، ويرى في رجال المقاومة “مغامرين” و“خطراً أصولياً” مريباً، وفي المعارضة بوقاً خبيثاً لـ“محور الشرّ”... والثاني يرى أن الخطر الفعلي والوحيد على المنطقة اليوم هو “المشروع الأميركي”، والوحش الاسرائيلي الرابض، وكل ما عداه تفاصيل قابلة للنقاش.
بعد “انتهاء” الحرب الأهليّة، وتحديداً منذ أواسط التسعينيات، أخذ كل شيء يبدو جميلاً وواعداً في الحياة الثقافية اللبنانية. جاء ذلك في ظل أوهام “الإعمار”، واقتصاد “الكاباريه” الذي حوّل لبنان واحة ومصيفاً يطيب فيه العيش و... الإبداع (مع هامش ضيّق للثقافة الجادة طبعاً!). أعيد لبنان إلى رسالته الأولى: بلد خدمات. كان يصحّ ذلك في الاقتصاد (المصارف والعقارات والفندقية وصناعة التسلية...)، بقدر ما يصحّ على الأغنية والتلفزيون والموضة وصولاً إلى الذوق. وفي هذه السكرة، لم ننتبه إلى أن قلّة فقط من المبدعين والمثقفين خرجوا من انتماءاتهم الصغيرة إلى مشروع ثقافة وطنية جامعة. كل ما في الأمر أنّه صار بالإمكان تمويه “العصبيات” والمصالح الضيّقة، تحت غطاء توحيدي فولكلوري... رفع الحواجز الجغرافيّة ربّما، لكنه لم يعدّل شيئاً في التركيبة النفسية وفي المزاج العام لمعظم المشتغلين في مجالات الإبداع والإعلام. نختلط ونعمل معاً إذاً، لكننا نعود آخر النهار كلّ إلى ربعه الأصلي، أو المُخترَع على أساس مركّبات نقص تصل إلى كره الذات. وجاء زلزال تموز ليخلخل ما بقي من أساسات خطاب السلام الأهلي (القسري) الذي كدنا نصدّقه...
اليوم باتت هوة تفرّق المثقفين في لبنان، (مقارنة بإجماع مدهش على مستوى المثقفين العرب حول المقاومة وإنجازاتها)... ولعل القطيعة الراهنة، ولو مؤلمة، تجعل العام الماضي، بالنسبة الى المثقفين، عام المجاهرة بالمواقع الحقيقية، وفحص الضمير (الصحّي). لم يعد من مكان لإجماع مزيّف، ولعموميات رومنسية ووطنية، ترضي الجميع ولا تغضب أحداً. الحرب الأهليّة بدأت من الثقافة... فعساها تنتهي عندها!