strong>نور خالد
لمعت عينا مذيعة “العربية” جيزيل حبيب، وهي
تعلّق على مشهد إعدام صدام في برنامج “السلطة الرابعة”. قالت إن الصورة التي التقطها “أحدهم” بهاتفه، تعبير عن نوع جديد من “الصحافة المدنية”. هل كان ملتقط الصور يريد “تعزيز الديموقراطية” حقاً؟


في عام 2003، أطلق “المركز الإعلامي للمؤسسة الأميركية للصحافة” مصطلحاً جديداً هو “الصحافة المدنية”. ورد المصطلح في تقرير بعنوان “كيف يغيّر العامة مستقبل الأخبار والمعلومات”. وكان واحداً من التقارير المبكرة التي أرّخت لبداية ظواهر مثل “المدونات الإلكترونية” و“صور الخلوي” و“البثّ الخاص”، وغيرها من الأدوات التي يستخدمها عامة الناس في “مهامهم الصحافية”. وعرّف المركز “الصحافة المدنية” بـ“مشاركة مواطنين في تزويد وسائل الإعلام بمعلومات هدفها أن تكون مستقلّة، مؤثرة وذات معنى في سبيل خدمة أهداف ديموقراطية”...
هل ينطبق هذا المصطلح على سلوك ملتقط صورة صدّام؟ الصورة العتيدة المأخوذة من فيديو التقطه أحد الشهود على عمليّة الإعدام بهاتفه الخلوي، لم تخدم أي هدف ديموقراطي... إذ «خلدت» مشنوقاً في أجواء طائفية... اللهمّ إلا حقّ أقارب كل ضحاياه في مشاهدة نهاية قاتل أبنائهم. هذا حقّ كان بالإمكان تجاوزه، تحت عناوين “فتح الصفحات الجديدة” في تاريخ العراق...
هل كانت نية حامل الهاتف، وهو يصور عملية الشنق، أن ينشر سلاماً، وربما منّاً وسلوى، بين العراقيين التواقين إلى “ديموقراطية” ما، توقف هدير شلالات الدم في ساحات بغداد وأرصفتها وشوارعها؟ بالتأكيد لم تكن نيته على هذا الصفاء، وخصوصاً أن مثل تلك الصور قد تؤجج العنف الذي يجتاح البلاد. ثانياً، ليس ملتقط الصورة من العامة. ولا يمكن، على الإطلاق، أن يسمى “صحافياً مدنياً”. إنه أحد “المسؤولين الكبار” حسبما تداولت الصحف أخيراً. هذا يعني، باختلاف السياق، أنه مثل أولئك الجنود الذين يصورون زملاءهم في الثكنات العسكرية، في لحظات ممارسات جنسية عنيفة أو تعذيب مرضي. هل يمكننا أن نطلق مثلاً على الجنود الذين سربوا صور وتسجيلات “أبو غريب” الشهيرة لقب “صحافيين مدنيين”؟!
يحمل اللقب الكثير من المعاني القيمة التي تدافع عن الحرية واختراق السيطرة على الصورة والخبر، أكثر بكثير مما يحمله في رأسه جندي يتلذذ بتصوير زملائه أثناء قيامهم بأفعال مشينة. هو مجرم مثلهم، وليس “صحافياً مدنياً”، لمجرد أنه سرب صوراً متحركة أو فوتوغرافية، من مكان لم تكن فيه “الميديا التقليدية” موجودة.
اذاً من هو “الصحافي المدني”؟ الأمثلة كثيرة، تبدأ من سياتيل عام 1999. هناك، كانت شرطة تهاجم شباباً ناشطين يعترضون على اجتماعات “منظمة التجارة العالمية” التي استضافتها المدينة آنذاك. نقلت شاشات العالم المشادات بين الشرطة والشباب، بعضها أسماهم “مقترفي شغب”. الخمسون ثانية التي تظهر رجال الشرطة وهم ينزلون بهراواتهم على رؤوس “متمردي سياتيل”، لا تقول الكثير عنهم ولا عن أسباب حركتهم وصراخهم في الشارع. قرر هؤلاء الشباب أن يجدوا بديلاً. أنشأوا موقعاً على الإنترنت، وسمَّوه “المركز الإعلامي المستقل”. حمّلوه صوراً التقطوها بهواتفهم النقالة: مشاهد كاملة غير مقتطعة توضح الظرف والسبب والغاية. اعتبر هذا الموقع أول تجربة في تاريخ “البلوغز” أو “المدونات الإلكترونية” التي سرعان ما انتشرت، وأصبح قياديو الصين، كما مصر والأردن وتونس وغيرها، يهابون محتواها.
بعيداً من سياتل، هل تعرفون “محمد الشرقاوي”؟ شاب مصري وناشط مدني، اختطفه رجال أمن في وضح نهار من شهر أيار (مايو) الماضي في وسط البلد. أوسعوه ضرباً، عذبوه و... اغتصبوه. اختطفوا معه كثراً من الشباب المصريين الذين كانوا يقفون في الساحات إحياء لذكرى «الأربعاء الأسود» الذي سحلت فيه نساء حركة “كفاية” في أيار 2005 واغتصبن. لم نكن لنعرف تفاصيل تعذيب الشرقاوي لولا المدونات: نشرت صوراً، حرّضت، نقلت آراء... كانت صحافة مدنية بحقّ، أحرجت وزارة الداخلية، وأجبرتها على فتح تحقيق ومحاسبة “هؤلاء المسعورين جنسياً”. هذه “صحافة مدنية” تناضل من أجل الديموقراطية. الصحافيون، هنا، ليسوا سياحاً. لم تفاجئهم موجة “تسونامي”، وهم على شرفة فندق في منتجع ما في جزيرة آسيوية. هؤلاء، ممن صوروا الموجة العملاقة التي أودت بحياة مئات الآلاف في العام 2003، أسهموا في تأريخ لحظة جنون الطبيعة. هل هم “صحافيون مدنيون”؟ بمقياس نقل الصورة نعم، لكن بمقياس غاية الصورة، هم ليسوا كذلك. لا غاية قيّمة في نقل صورة الموجة. إنها مجرد صورة لم تستطع كاميرا “سي. أن. أن” أن تلتقطها، ففعلها سائح هاو كتبت له النجاة. هي صورة تنقل الموجة ــ الكارثة، ولا تصنعها. ومن هنا، يكمن الخطأ الثالث في تصنيف مصور لحظة إعدام صدّام بالصحافي المدني: صورته صنعت كارثة ولم تنقلها!