سعد هادي
“مذكرات مندائية” (دار المدى) كتاب مرجعي عن طائفة الصابئة. مؤلّفه غضبان الرومي يفتح صفحات خفية من تاريخ العراق، كاشفاً النقاب عن العلاقة الشائكة بين الطوائف والأعراق... في برج بابل الحروب الأهليّة الكامنة

لا يكتسب كتاب “مذكرات مندائية” (دار المدى) أهميته من كونه سيرة ذاتية لمؤلفه غضبان الرومي، ولا تكمن أهميته فقط في أنه أحد الكتب القليلة التي تناولت طائفة الصابئة بقلم أحد أفرادها، في وقت لم تنجح فيه الكتب الأخرى التي ألّفها عرب وأوروبيون في الإحاطة التامة بالتطور التاريخي لتلك الطائفة وطقوسها، وبمراحل نمو الشخصية المندائية في واقع يتصف بالبدائية والقبلية والتخلف الاقتصادي. يستمدّ هذا الكتاب أهميته من أنّه يفتح صفحات خفية من تاريخ العراق، منذ مطلع القرن الماضي وحتى ثمانينيّاته. ويكشف المؤلف النقاب، في لمحات نادرة، عن العلاقة بين الطوائف والأعراق ومظاهر التلاقي والافتراق بينها، ثقافياً واجتماعياً.
الانقسام الاجتماعي أولاً
يصف غضبان الرومي جانباً من مدينة قلعة صالح التي تقع جنوب العراق التي سكنها المندائيون منذ تأسيسها عام 1865، وقد أصبحت من أهم مراكزهم الاجتماعية والتجارية تمتد كيلومتراً بموازاة نهر دجلة. يقول البــــــــــاحث: “يقع مقهى المسلمين في المقدمة القريبة من النـــــــــــهر ويقابله مقهى اليهود. وفي آخر السوق أيضاً مقــــــــــهى للشيعة. وهذا يعكس الانقسام الاجتماعي بين الطوائف الدينية المختلفة. وكان الاختلاط مقتـــــصراً فقــــــــط على الدوائر الحكومية والمعاملات العامة، أمّا الاختلاط الاجتماعي في المجالات الأخرى فمعدوم”. كما يشير الى أن رجال الدين كانوا يوصون بعدم الاقتراب من معتنقي الديانات الأخرى، ولو لشرب الماء، فــــــــتلك خطيئة يجب على المؤمن أن يتعمّد ليتطهر منها. ويضيف أيضاً: “أما اقـــــــترابنا من الدين الإسلامي فكان مباحاً الى حد كبير، لأن المسلمين يعتبروننا من أهل الذمة والحال أننا عشنا بين أهل الشيعة الكثيري العدد والمتعصبين عــــــــــقيدة. وكان أبناء السنة قليلي العدد بيــــــــــننا وهم أقل غلواءً من أهل الشيعة ضد الصابئين، وضد غـــــــيرهم من أهل الكتاب. أما علاقتنا بالمسيــــــــحيين، فكانت أخــــــــــــف وطأة من كل أهل الأديان الأخرى، ذلك لأننا كنا نعتقد أن المسيح هو ابن خالة يحــــــــــيى الذي نعتبره نبياً لنا ونقدسه”.
من جهة أخرى، يشير الرومي الى أن شيئاً من الغموض ما زال يكتنف تاريخ الصابئين وهجراتهم. إذ إن المكتشفات الأثرية لا تحدد بالضبط حياتهم ومساكنهم الأولى. إلا أن التاريخ على حد تعبيره يظهر أن الصابئين من الآراميين الذين سكنوا اليمن، وهاجروا منها الى الشام. ثم هاجر قسم منهم الى جنوب العراق، أرض السومريين والبابليين وسكنوا هناك. ولأنه كان يُسأل كثيراً عن ديانة الصابئة وتاريخ الصابئين، وكانت إجاباته عامة، وغير مبنية على حقائق علمية بسبب قلة معلوماته، بدأ يجمع الكتب المندائية ويتعلم لغتها. وقام بتأليف كراس نشره عام 1955 بعنوان “الصابئون في العراق”. لاقى الكتيّب رواجاً كبيراً، ثم بناءً على طلب مسؤول حكومي كان يريد إبطال الشكوك حول العقيدة الصابئية وأصولها، قام بتأليف كتاب بالاشتراك مع مؤلف صابئي آخر هو نعيم بدوي تم جمع معلوماته من المصادر العربية والإنكليزية. لكن الكتاب اختفى بعد إلقاء القبض على بدوي بتهمة الشيوعية في الأيام الأولى للانقلاب البعثي عام 1963.
مجاراة التحوّلات
ويوضح الرومي أن كلمة الصابئة اشتقت من كلمة “صبا” الآرامية، وتعني مَن صُبغ أو تعمّد، بينما تعني في العربية كل من خرج من دين الى دين آخر. والتعميد في العقيدة الصابئية ركن أساسي، وقد جاء في كتاب “كنزا ربه” (الكنز الرباني أو صحائف آدم وهو الكتاب المقدس للصابئة) أن التعميد يُخرج الفرد من اليهودية الى المندائية. أما كلمة المندائية، فتعني العارف أو المعرفة وكذلك الوصول الى الله من خلال التأمل الذاتي والتصوف والتفكير العميق. ولا يحتاج هذا الوصول بحسب الصابئة الى أنبياء ورسل ليوصلوه الى الناس. ويرى الرومي أن كلمة مندائي مشتقّة من مندا وتعني الموحّد، وذلك دليل على أن الدين الصابئي سواء كان من المعرفة أو من المندائية، فهو يعني توحيد خالق هذا الكون الذي يعجز الإنســان عن وصــــــــفه أو معرفة تكوينه وكنهه.
ولأسباب عدة، اضطر الصابئون الى مجاراة التحولات في المجتمع العراقي للخروج من عزلة فُرضت عليهم، او فرضوها على أنفسهم. وأخذ وضعهم بالتحسن بعد الخمسينيات، من حيث المأكل والملبس والمسكن، وبدأوا يدخلون المطاعم ويأكلون اللحوم المذبوحة من غيرهم. حتى إنّ قسماً من الشباب والفتيات تزوجوا أبناء الأديان الأخرى، على رغم أنّ دينهم يحرّم ذلك. كما غيّر الكثير من الصابئة أزياءهم التقليدية، ولبسوا الملابس المدنية الحديثة، وحلقوا لحاهم. أما التعميد، فضعفت مظاهره رغم أنه العمود الفقري في الديانة، واستعيض بـ «الدوش» عن السباحة في النهر التي أُلغيت نهائياً، فيما اقتصر أداء هذا الطقس على رجال الدين الذين يستعملون ماء النهر في شربهم وتطهير أجسامهم.
“مذكرات مندائية” الذي كُتب في الثمانينيات، يشكل وثيقة شخصية عن زمن مضى. وكان من الأجدى، أن يأتي تحت عنوان “مذكرات مندائي” لأن الكتاب لا يمثل وجهة نظر طائفة معينة بما حولها... إنما هو شهادة من أحد أفرادها عن أحداث عاصرها أو شارك في صنعها، وأعاد روايتها من وجهة نظره الشخصية. شهادة في تاريخ العراق وتحولاته واضطراباته والصراعات الخفية والمعلنة بين مكوّناته.