رلى راشد
تفتح أحدث روايات مي منسّى “أنتعل الغبار وأمشي” مصراعيها على رؤية البدر وتُقفلهما على الرؤية نفسها، وكأننا في حلقة. لكن البدر، التائه بين شهوة القتل ابّان الحرب ورائحة الدماء، يستحيل توريةً عن الموت. من خلال هذا المجاز، تطلّ الرواية (دار الريّس) على شاعريّة حسّية. فالحواس خيط يقود امرأة نحو ماضيها، ونواته موتٌ يتمثّل بمجزرة سلبت الراوية أمها، وأبعدتها عن أخيها، وأقصتها عن وطنها. تقودنا الحواس، في وثبات كرونولوجيّة، نحو ذاكرة ورديّة بعيدة حيث “اللسان الحامل في حليماته ذاكرة جماعيّة لها طعم مناقيش الزعتر”. كما تقودنا نحو ذاكرة أخرى تراجيديّة، إذ تشهد الطفلة، من خلف ستارة، تصفيةَ والدتها، مع ما يرافق ذلك من تشتّت وظيفي يبلغ ذروته مع اعتصام الفتاة تماماً بالصمت. ويرافق اختلال الحواس تمَلمُل الفتاة في مركب يُبعدها، فتفوح من لسانها رائحة الموت، وتختلّ المعايير الزمنيّة بدورها فيتداخل النهار مع الغروب والليل.
بُنيت الرواية على ثنائيات أبرزها ازدواجية الطفولة والنضج. التشبيه بين خيط الدم الرفيع المنساب من فخذي الطفلة عند الطمث، وخطّ الدم القاني المنساب من عنق أمها المُنازعة، يفضح خشية الطفلة من الإدراك، ورغبتها في معاقبة عجزها عن حماية والدتها. تنتقل الراوية ماريا بين نيجيريا والعراق والشرق الأقصى مراسلةً صحافية، وتلوذ بضمير المتكلم الى حين اتخاذها قرار الحب الذي سيصالحها مع هويّتها. ومع الحضور المفاجئ للأب، وما يثيره من مشاعر متضاربة، تحضر ازدواجية الخير والشرّ. تسأل الراوية نفسها إن كانت من ذريّة الثأر والبطش، أم من “ذريّة المسيح”. ويكمل حضور الأخ، حتى بعد تواريه، هذه الفسيفساء. تستعيده الراوية حتى في علاقاتها، إذ تلحّ عليها ازدواجيتها كامرأة: إنها حبيبة ميخائيل وشقيقة سامر. كل منهما يسمح لها بولادة أخرى، وهذا ما يعزّزه تشبيه “البذرة المُتكمّشة” في رحمها، بأصابع سامر “المُتكمّشة بأصابعها”.أما توق ماريا الى الكتابة فإراديّ، يعيدها الى المجزرة بغية تخطّيها... وغيبي أيضاً، إذ يأتي بعدما طاردتها أمّها في أحلامها وطالبتها برسائل. ويعيدنا هذا الدخول الأناني للراوي في تخيّله، بدل الاكتفاء بولادته الى تقليد In Figura في التشخيص، كما عند دالي المقتحم جغرافيا لوحته. وتحوم الإشارات الدينيّة (المسيحيّة) أيضاً في الرواية، نقع عليها مثلاً في قول ميخائيل ج.: “سنكسر الخبز معاً ونشرب الماء سوية”... أو في ذكر سامر الذي “كان ميتاً فوجد”. أما الإحالات الأدبيّة، فهي محرّك الشخصية الرئيسة، تدفعها الى حياة موازية، لتصبح تارة رديفة الدكتور جيغل، وطوراً شقيقة بعيدة لمدام بوفاري، الشخصيّة التأسيسية لأدب يوسا أو بارنز. “أنتعل الغبار وأمشي”، في المحصلة الأخيرة، رواية “مخاض”، مُفردة تلازم سطورها.