القدس المحتلّة ــ نجوان درويش
لا تبدو الظروف التي ولدت فيها أول فرقة راب فلسطينية بعيدة عن أجواء الراب الأسود الأميركي. انطلقت فرقة “دام” في أواخر التسعينيات من مدينة اللدّ الفلسطينية التي حوّلتها خمسون سنة احتلال إلى أحياء فقيرة تغصّ بالجريمة وتجارة المخدرات بتواطؤ مع قوى الاحتلال. على خلفية هذا الزمن القاتم، خرج ثلاثي “دام” ( تامر نفّار، سهيل نفّار ومحمود جريري) كصرخة ضدّ الاحتلال والعنصرية. فنّ المستضعفين استوطن فلسطين وراح مغنّوهينبتون كالفطر. هكذا، صار لفرقة “دام” جمهور في الخارج أيضاً ــ وخصوصاً من فلسطينيي الشتات وعرب المهاجر. ولعل أغنية “مين الإرهابي” كانت المانيفستو الذي كتبه الثلاثي نيابة عن منطقة بأسرها يُمارَس ضدها الإرهاب، في حين تُتهم هي بالإرهاب.
عشرات الحفلات قدمها ثلاثي “دام” في أوروبا والولايات المتحدة، فيما أتاح ظهورهم المتكرر في وسائل الإعلام الغربية كـ“ظاهرة”، انتشاراً أقنع شركة “ريد سيركل” البريطانية بإنتاج ألبوم لهم صدر أخيراً تحت عنوان “إهداء”.
يبدو صدور “إهداء” حدثاً في عالم الراب الفلسطيني: “هذا أول ألبوم راب فلسطيني تصدره شركة عالمية. ولو نجح توزيعه، فسيفتح الطريق أمام بقية فرق الراب الفلسطينية” يقول عَدي كريّم مغني راب من فرقة “ولاد الحارة” من الناصرة. ويضيف: “أرقام التوزيع هي ما يهمّ شركات الإنتاج. مثلاً، انفضّت شركات الإنتاج عن الراب الجزائري بسبب انخفاض أرقام توزيع تلك الفرق”. ويعتقد عدي أن صعوبة اللهجة الجزائرية هي التي حالت دون انتشار الراب الجزائري في العالم العربي.
اختلط الراب في ألبوم “إهداء” مع موسيقى البوب والموسيقى الشعبية الفلسطينية، بل أغاني الأطفال. الأغنية الأولى في الألبوم مثلاً مستوحاة من أغنية سمعها ثلاثي “دام” من أطفال مخيم جنين. تطالعنا جمل مثل: “وين ما أروح بشوف حدود/ ساجنه الإنسانية/ ليه أطفال العالم حرّة وأنا ما لي حريّة” لتتداخل مع كلمات لنزار قباني “نريد جيلاً غاضباً/ نريد جيلاً يفلح الآفاق... لا يغفر الأخطاء لا يسامح/ لا ينحني لا يعرف النفاق”.
ونلحظ في الألبوم توجهاً ملحوظاً نحو “الغناء” (إذا ما تذكّرنا أن الراب هو نوع من الإلقاء في الأساس)، واعتناءً بالجانب الموسيقي للراب. الفن الذي بدأ تكسيراً للغة والجماليات، وتقشفاً فنياً أخذ ــ على طريقته الخاصة ــ يصقل نفسه ويصوغ جمالياته ويعتني أكثر بلغته. وفي أغنية “انقلاب”، لا يجد سهيل نفار حرجاً من الاستعارة من مدرسة غنائيّة أخرى، هي الـ“ريغي” المغايرة للـ“راب”، وإن تقاطعت معه في النفَس الرفضي. فقد اختار مقطعاً من أغنية بوب مارلي الشهيرة “It takes a revolution to find a solution” (إيجاد حلّ يستغرق ثورةً كاملة)، وجعله لازمة تتكرر في خلفية الأغنية. يذهب ثلاثي “دام” في أسطوانته الجديدة إلى بثّ الأمل. وما بدا في أغنياتهم الأولى صراخاً من قاع اليأس والإحباط الوطني، صار في عملهم هذا إيماناً عميقاً بالقدرة على التغيير... ورسالة موجهة الى أجيال عربية جديدة معتدّة بنفسها، ترفض الامتثال لشروط هزيمة تاريخية كانت في الأساس هزيمة للمخيلة.
إن رسالة المقاومة في الراب الفلسطيني هي طبيعية تصدر عن الواقع اليومي، حتى الجمل التي يفتتح بها الألبوم من خطاب لجمال عبد الناصر تبدو أبعد ما يكون عن “كلام الخطابات”. ولعل صدور الألبوم مباشرة بعد الحالة التي خلقتها المقاومة اللبنانية في المنطقة العربية، يمنح كلمات الخطاب راهنيتها. مثلما عندما يبدأ الألبوم بجملة: “لا نساوم على حريتنا”. حتى الجمل المباشرة تبدو حميمة حين تتلاحم مع الراب الملتصق بالتجربة اليومية. “لم نأخذ كلمات عبد الناصر لأنها له... بل لأنها من صلب عملنا!” يؤكّد تامر نفار. بالنسبة إليهم، ليس عبد الناصر مجرد أيقونة للقومية العربية، بقدر ما يتعلق الأمر بممارسة يومية تقف في وجه اقتلاع الهوية العربية لفلسطين.



من دفاتر
مازن كرباج

  • ثلاثي “دام”

    ثلاثي “دام”