القاهرة ـــ وائل عبد الفتاح
انطفأ أسامة الدناصوري، في القاهرة، بعد صراع طويل مع المرض. والشاعر المصري الذي يودّعه أهله وأصدقاؤه اليوم، أقام علاقات غريبة مع قصيدة النثر التي جاءها من ضفة أخرى، وراودها بلغة من زمن بعيد... واقفاً عند الحافة الحرجة بين الحياة والموت

لا أعرف لماذا حبست نفسي في المكتب أربعة أيام بعدما “خبطني” الخبر: “أسامة الدناصوري... خلاص”. لم يكن الخبر مفاجأة بالمعنى الكامل للكلمة. كنت أنتظره منذ أول يوم عرفته فيه، فهو من نادي “الفشل الكلوي”. ومفردات مثل المرض والموت المرعبة، كانت طبيعية وأليفة في عالمه، منذ عرفته. التقينا قليلاً. في كل مرة أكتشف جزءاً منه. كنت مطمئناً، رغم القدر المحتوم، إلى أن هناك وقتاً لكي أعرفه أكثر. لكنه فعلها واختفى بعد أيام قليلة من انتهاء كتابه الجديد الذي كتب فيه بروفة الموت. وظننا أنه انتصر الى الأبد على تجربة عاش معها 12 سنة متنقّلاً بين وحدة الغسيل الكلوي التى عثر بين تفاصيلها على حكايات وأصدقاء، ودراما منحته عالماً خاصاً به... أطلعنا عليه بأبطاله وأسراره ولمحاته قبل أن يختفي.
كيف صنع من المساحة الضيقة كل هذا العالم المتسع؟ كيف التقط، وهو على أريكته التي قضى عليها معظم سنواته الـ47، كل هذه الحياة؟ هو وزوجته سهير، والضحكة بينهما لا آخر لها. قصة لم تتعلق فقط بالشعر الذي اختاره عكس دراسته علوم البحار، ربما هي الخبرة الخاصة لجسد مطارد بمرض شرس وروح شرسة في صنع الحياة في المسافات الضيقة. ألعاب أسامة كانت منذ البداية مثيرة، فهو يكتب قصيدة النثر. أَحبها من أنسي الحاج ومحمد الماغوط. كان يعرف أنها رحلة خارج المزاج الشعري لأمل دنقل. لكنه ظل يحب أمل، ويسافر الى قصيدة النثر... بلغة من زمن بعيد. هكذا، خرج بعيداً عن مؤسسات الثقافة الرسمية وغير الرسمية. الشعر المعترف به والشعر المنبوذ. لم يكن من شعراء السلطة رغم أنه اختير، في الفترة الأخيرة، ليمنح شباباً لـ“لجنة الشعر” العجوز في “المجلس الأعلى للثقافة”. ولم يكن على قائمة الأجيال والجماعات. أسامة كان خارج كل التكوينات المغلقة. جيل وحده ربما، أو مع صديقه (المرض) الذي كان يعرف أنه سيقتله يوماً ما. وظن قبل أيام أنه انتصر عليه، عندما كتب قصته معه نثراً. بعد أربعة دواوين واحدها بالعامية المصرية («حراشف الجهم» ــ 1991، و «مثل ذئب أعمى» ــ 1996، و «على هيئة واحد شبهي» -2001، و «عين سارحة وعين مندهشة» ــ 2003)، أراد من خلالها أن يمضي بعيداً إلى أرض لم تسقط بعد تحت سطوة الكليشيهات. والنص الأخير قفزة أكبر في اتجاه تلك الأرض. بل طيران خفيف عند الحافة الحرجة بين الحياة والموت.
كيف كتب بهذه الرقة كل تلك القسوة التي ترتعش معها أجسادنا؟ وكيف هرب من أسر الشفقة والامتنان؟ ألاحق نفسي بأسئلة لأهرب من الجنازة. هربت فعلاً. لكن غداً العزاء. وهذا أول اعتراف بأن الغياب سيمتد الى الأبد، وبأن فرصة اكتشاف أسامة أكثر انتهت تقريباً. هو بنفسه اقتادني بعيداً عن تلك اللحظات وأنا أناقشه فى البروفة التي كتبها. قلت له هذا النص لا يصلح إلا بالاكتمال. لم أعرف أن اكتماله هو لحظة الطيران المنتظرة منذ سنين. ولم أعرف أن عزلته ستطول، وأن الأغاني القديمة التي كان مرجعاً فيها ستخزن الآن في ذاكرة أخرى، ذاكرة لا تشبه المدونة التي تمنى أن تكون له على الانترنت، رغم أنه مبتدئ في عالم الديجيتال. وأستاذ في المتع الخطرة: السجائر والشعر، ومطاردة السعادة المشعة خلف أنابيب غسيل الكلى التي حفظتُ أسماءها يا أسامة... لكن بعد أن غبت أنت. ولم تجد مكاناً في مستشفى لا يخاف نزيفك الأخير الذي كان ينتظره كل من عرفك.
لقد اختفيتَ بعدما أصبحت أقدم مريض وسط زملاء الأسرة. اعتزلتَ، بعدما كتبتَ البروفة. تركتَني في غرفة المكتب حائراً: كيف يمكن أن تفلت من جنازة صديق؟ كيف يتحول الصديق صوراً تبحث عن ملف للحفظ؟ وكيف تعيش حياة واسعة، في مساحة أقصر من مشوار بين السرير والسرير؟
الأسئلة هي مهدئ المرعوبين من الموت. الآخرون يغرقون في الإجراءات والتفاصيل. أما أنا فأهرب الى عزلة إجبارية مع أسامة. أحاول أن أجمع مشاهدي معه. هو صاحب اللغة المفتونة بالماضي لكنها تسير الى حداثة تعرف أنها مترجمة. وهو الذي تلمع عيناه ببريق غير بريق الصحة يرثي كلبه الماهر في اصطياد الطرائد ويعزيه عن قدرته على الصيد. هو الذي كتب العزاء بنفسه وأخرج من أجندته الخضراء كل تلك الحكايات القاهرة للموت ثم مات. ها أنا اعترف. هو اعترف قبلي حين استسلم لخطيئة طبية قاومها كثيراً. تسرّب بوداعة من يعبر نفقاً شفافاً. كنت أراه وأكذب عينيّ حين غادر مقهى “الجريون” يوم انتصار الأهلي وحديثنا عن “أورغاسم” الكرة وعن علاقته بالكتابة الأخيرة. يومذاك كنت بين نقيضين: بين أنّه سيعود لأنه كتب النهاية واستراح من همّها، فيمكنه الآن أن يعيش أطول... وبين أنه في الهالة التي لا نراها، سينتهي من كتابة البروفة وينزع الأنانبيب ويرتاح من التفاصيل المملة ويطير. يطير الى أرض الشعراء، هناك على قمة جبل سيسمّيه وإلى جانبه كلبه الحبيب ربما بعافية جديدة.