مهى زراقط
هذا المساء، يقدّم زاهي وهبي، للمرّة الأخيرة، برنامجه الشهير «خليك بالبيت». بعد أكثر من خمسمئة حلقة، استضاف خلالها، على شاشة «المستقبل»، أبرز الشخصيات العربيّة في مجالات الثقافة والإبداع. وقفة تقويم مع الشاعر الشاب الذي صار، عبر السنوات، ينافس ضيوفه على النجوميّة

عندما يبدأ زاهي وهبي بتعداد أسباب توقيف برنامج “خليك بالبيت”، يخيّل إليك أنه لن ينتهي: العصر، التطورات التقنية في صناعة التلفزيون، انتشار الفضائيات... تراه يقنعك أم يقنع نفسه؟ تسأل ولا تنتظر الإجابة، ما دامت النتيجة واحدة: البرنامج سيتوقف هذا المساء. يتحدّث وهبي، بشيء من الحزن عن تلك التجربة الرائدة التي تصبح بدءاً من الغد، من ذاكرتنا التلفزيونيّة، أي جزءاً من الماضي.
لكن لا داعي إلى الرثاء، كما هي العادة حين نشهد انتهاء تجربة ناجحة على الشاشة الصغيرة، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالصحافة. يبدو وهبي مقتنعاً بأن كل تجربة لا بدّ لها من أن تنتهي: “من كان يتصوّر ــ حتّى في الأحلام ــ أن يعيش برنامج “خليك بالبيت” عشر سنوات!”. لذا يتخذ الحوار معه محاولة لاستعادة بعض دروس تلك التجربة، على المستويين المهني والإنساني. بدءاً بإشكالية الثقافة والشاشة الصغيرة... إذ كيف استطاع برنامج ثقافي الاستمرار والنجاح كل هذا الوقت؟
يعترف زاهي بأنه لم يكن يملك سرّ “الوصفة”... وبأن التجربة وحدها حددت مسارها: “كانت الفكرة تقديم برنامج ثقافي يستضيف الكتّاب والشعراء فقط. استضفت في الحلقة الأولى المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، حاوره معي رئيس تحرير “السفير” طلال سلمان والأديب الراحل عبد الرحمن منيف والملحن عبد الكريم الشعار. آنذاك، لم تكن هوية البرنامج قد تبلورت بعد. لكنني منذ الأسابيع الأولى انتبهت إلى ضرورة التغيير. شعرت بأن البرنامج النخبوي المحض لن يكتب له النجاح... فقررت توسيع “مروحة” الضيوف حتى يصبح البرنامج ثقافياً بالمعنى الأشمل للكلمة، ولا يبقى حكراً على ما يسمى الوسط الثقافي أو العاملين في الشأن الثقافي المباشر”.
ويعزو هذا الخيار إلى وعيه وظائف الوسيلة الإعلامية التي يطلّ عبرها: “التلفزيون وظيفته تقديم الخبر أكثر من تقديم المقاربة النقدية للعمل الإبداعي. أما دوري، فهو الوسيط الذي يعرّف المشاهد بتجربة معينة، ويحرّضه على التعرف إليها بنفسه وبطريقة مختلفة. أي إنني لا أحمّل نفسي أكثر مما يحتمله التلفزيون”.
وطبيعة تلك الوسيلة نفسها، تملي اليوم فكرة التغيير التي بدأت تطرح نقسها منذ أكثر من عام: “كنا دائماً نتناقش في إدارة “المستقبل” بشأن ضرورة التغيير. لقد خطت صناعة التلفزيون خطوات كبيرة إلى الأمام، واختلفت البرامج الحوارية وتغيرت. في البدايات، لم يكن هناك إلا أربع فضائيات، وكنّا البرنامج الوحيد الذي يتلقى اتصالات من المشاهدين والفنانين والمبدعين. كل هذا تغيّر اليوم ويجب أن نواكبه، وخصوصاً أن المحطة تشهد حملة شاملة للانطلاق بحلة جديدة، ولا يجوز أن يبقى “خليك بالبيت” متخلفاً عن تلك الانعطافة».
هذه الطواعية للتغيير سببها أيضاً “نضج من جاوز سن الحكمة أي الأربعين”. وهنا لا يتردد زاهي وهبي في الإفصاح عما يراه من فوارق بين ما هو عليه اليوم، وما كانه قبل عشر سنوات: “في البداية، كنت أطرح السؤال وأنا أقول: “يا رب تيجي في عينه”. كان هاجسي إظهار قدرتي على طرح كل أنواع الأسئلة، وقول كل ما أريده من دون أن أفكر في الضيف ومشاعره ورغباته”. اختلف الأمر اليوم: “صرت أعي أن الإنسان أهم من المهنة. ومارست هذه القناعة... وخصوصاً أنني تعلمت كيف أطرح الأسئلة من دون التسبب بأي جرح للضيف أو المشاهد”.
من الاهتمام بمشاعر الضيوف نصل إلى الشقّ الإنساني في التجربة: “هذا البرنامج غيّر حياتي نحو الأفضل، جعلني أنضج، وعرّفني إلى تجارب قد لا أكون قادراً على اختبارها في ظروف مختلفة. تعلّمت من كل الشخصيات التي التقيتها. ولا أنسى ما قاله لي المخرج المصري يوسف شاهين ذات مرّة، وقد جاوز السبعين، من أنه يرغب في العيش أكثر ليتعلّم أكثر”.
ويطيب لزاهي أن يحكي أكثر عن سعد الله ونوس الذي كان الحوار معه فرصة لتعلّم الأمل، وهو القائل “إننا محكومون بالأمل”. كما يعدّد أسماء العديد من الشخصيات التي استضافها ذاكراً مميزات كلّ منها، متوقفاً في شكل خاص عند الرئيس الشهيد رفيق الحريري “الذي كان داعماً كبيراً للبرنامج”. يقول زاهي: “كان يستقبل كثيرين من ضيوف البرنامج. كما اتصل مرة وتحدث إلى صابرين على الهواء. ومن الأمور التي أعتزّ بها أنه حكى في برنامجي للمرة الأولى عن سيرته الشخصية. وهذا ما فعله السيد حسن نصر الله، ما أعطى قيمة كبيرة للبرنامج”.
غير أن تلك القيمة كانت أيضاً وراء نشوء مشكلة أساسيّة، يختصرها زاهي كالآتي: “عدم مرونة النقاد إذا استقبلت تجارب شابة. حتى بعض الضيوف الشباب كانوا يرون أن إطلالتهم في البرنامج أمر سابق لأوانه. وقد تفاديت هذا الأمر في النهاية، واكتفيت بالبحث عن التجارب المميزة”.
ولم يكن بحثاً صعباً ــ على ما يبدو ــ لمن يصف برنامجه بالمَنْجَم: «الشخصيات يدل بعضها إلى بعض. أجد قطعة نادرة تدلني إلى أخرى. من أين كنت سأتعرف مثلاً إلى المطربة الموريتانية الرائعة معلومة بنت المداح، وأدرس سيرتها؟ كنت أتلقى اتصالات من ناس يدلّونني إلى تلك الشخصيات. لذا أرفض القول إن سبب توقيف البرنامج استنفاد الشخصيات... لما في هذا القول من ظلم للوطن العربي الغني بالمبدعين».

التاسعة والنصف على شاشة “المستقبل”، ضيف الحلقة الخبير الاقتصادي كمال ديب