بعدما شاهدناها على خشبة «مسرح المدينة» العام الماضي، يعيد المخرج عمر أبو سعده والدراماتورج محمد العطار عرض مسرحية «أنتيغونا» بحلة مختلفة ومعطيات جديدة خاضعة لهوى يوميات اللجوء في كانتونات الفقر والبؤس. «أنتيغون السورية» هي اليوم «أنتيغون شاتيلا». كما تتبدل الأشياء فينا رويداً رويداً سوف يتبدل هذا العرض: من أنتيغونات مسكونات بسوريا وباللحظات الأخيرة التي أمضينها هناك، تحت أزيز الرصاص والزجاج الذي تكسر تحت أقدامهن، إلى أنتيغونات اليوم. الآن، في مخيم شاتيلا... مأساة قد لا تنتهي أبداً.
في العرض السابق، عمل الثنائي مع مجموعة من النساء اللواتي تركن سوريا ولجأن إلى لبنان.
امرأة، تتلو عبر مذكراتها على الحاسوب مأساة جماعة. تتقاطع مذكراتها مع حيوات نساء أخريات تحدّين السلطة وأعدن تعريف مفاهيم التراجيديا التي تؤطر البطولة والمأساة في موت لا مناص منه. ابتداء من السبت 2 أيار (مايو) ستقف ٢٣ أنتيغونا لمدة ثلاثة أيام على خشبة «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت).
سوف تعير الجمهور مفهومها الخاص لتراجيديا اليوم أو «ما بعد التراجيديا اليوم»: المأساة كفعلٍ لانهائي، يحدث كل يوم وكل دقيقة. «حين نختبرها على الخشبة بأجساد وأصوات أهل المأساة أنفسهم، يختفي إطار البطولة المعهود». ولربما هنا تكمن الأسباب التي دعت الثنائي أبو سعده/ العطار إلى إعادة تقديم «أنتيغون شاتيلا». «ماذا سيحصل عند انتهاء العرض؟» هذا السؤال الذي طرح في العرض الأول، ليس سؤالاً عرضياً. هو المعضلة الأساسية لهذا النوع من الأعمال. يذكر محمد العطار «أننا، ومنذ اللحظة الأولى للقائنا بالنساء اللواتي اعتلين الخشبة، شددنا على أننا لا ندّعي امتلاك قدرات تغييرية لمصائر الناس أو أقدارهم. كل ما يسعنا القيام به هو التحفيز والضغط، نحن لسنا سوى كتلة ضاغطة تعي تماماً حدود عملها...». في الوقت نفسه، يؤمن الثنائي بقدرة المسرح على التأثير إيجاباً على تلك الفئات المهمشة، إن كان لناحية إعطائها ملكة التعبير والبوح بكل حرية وشفافية أو لناحية إعادة انتزاع الثقة بالنفس أو حتى إمداد تلك الفئات بدعم مادي ولو بسيط. لذا كان أساسياً أن يعي الثنائي منذ البداية أهمية هذا السؤال الذي يؤرق كل مسرحي: ما هي مسؤوليتي تجاه هذا الفرد مع أنني أعي تماماً حدود قدرات المسرح وقدراتي على تغيير مصائر من أعرّيهم على الخشبة؟ في هذا الإطار تأتي فكرة إعادة تموضع عرض «أنتيغون السورية» إلى «أنتيغون شاتيلا».

يعود ريع العروض بأكملها للنساء المشاركات في العمل ولعائلاتهنّ
هي أيضاً فرصة لهن ولفريق العمل في آن لأخذ تلك المسافة التي تتيح وعياً متبدلاً ومختلفاً لكل ما قيل آنذاك.
«نحن محظوظون بذلك» يقول محمد العطار، فـ«ما يجري في سوريا الآن وفي بلاد الشتات، ما يجري في لبنان وفي جوار سوريا، متسارع ودرامي بشكل هائل، ومرور الوقت على هذا الحدث يترك آثاراً متنوعة على الفرد...». عرض «أنتيغون شاتيلا» هو محاولة لرصد تلك الآثار. هو أيضاً محاولة لإيجاد إجابة ولو «جزئية عن سؤال ماذا نريد أن نفعل بعد عرض «مسرح المدينة»؟ كيف نفكر نحن اليوم؟ ماذا حملنا من العرض السابق وكيف أثر فينا؟ كيف تم هضم تلك التجربة على كل المستويات؟».
رغم حفاظه على السياق العام، خضع العرض السابق لتغييرات متعددة، بعضها طاول عدداً من الخيارات الفنية فتغيّرت الدلالات، وبعضها بحث عن مضامين مختلفة. تم تغيير الراوي. هذا ليس تفصيلاً، وهنا وجبت الإضاءة على كواليس التمارين ــ حيث لعبت النساء دوراً كبيراً في بناء نصّ العرض واللعب على تقاطعاته. أحد التمارين التي كان يقترحها العطار على النساء هو كتابة مذكراتهن الشخصية. كان مجرد تمرين يساعدهن على البوح وتم استثماره لصالح إضفاء شخصية الراوي. تبدلت بعض الحكايات، وركز العرض على يوميات تلك النساء كلاجئات في شاتيلا. لم يعد دفن الأحبة والهروب من سوريا هما الأساس في العرض. العيش في شاتيلا يفرض على أولئك النساء «مواجهات جديدة ويومية تحرمهنّ من ترف التفكير بسوريا» و«تروما الحرب والتهجير وفقدان الأحبة» على حد قول العطار.
أنتيغونا اليوم هي لاجئة مع بطاقة لجوء وتحديات جديدة ومهولة. لم تعد تقف على أطلال سوريا رغم حضور سوريا الدائم في خلفية العرض. كل ما يعشنه أولئك النساء اليوم هو نتيجة كونهن سوريات. هكذا سوف تظهر للمشاهد أنتيغونا جديدة. يكرس الثنائي أبو سعدة/ العطار مفهوم «ما بعد المأساة» حيث يصبح الفعل المسرحي خاضعاً هو أيضاً للتبدلات اليومية، كما لو أن لحظات وجود تلك النساء على الخشبة هي فعلاً لانهائية ولا يتاح للمشاهد إلا رؤية تفاصيل صغيرة منها. جدير بالذكر أن الثنائي يحرص على توفير ظروف جيدة ولائقة ومحترمة للعمل لأولئك النساء، وهذا جزء لا ينفصل عن تكوين رؤية العمل بشكل عام. الشق المسرحي الفني لدى الثنائي أبو سعدة/ العطار لا ينفصل عن الشقين الأخلاقي والاجتماعي. هن يعملن ولا يعاملن على أنهن ضحية يتم استغلال حكاياتهن على الخشبة، كما لا يستدعي العمل معهن الشفقة، ويعود الريع الكامل لكافة العروض بأكملها للنساء ولعائلاتهن. هنا تكمن أهمية هذا العمل: حين نخضع شخصية أنتيغونا الإغريقية لحكم اللحظة الراهنة والمتبدلة دوماً. حين نغوص في لانهائية يوميات شخصيات يحاولن التماهي مع شخصية سوفوكليس التي وقفت بوجه الطاغية. هنا لا بد من إخضاع الخشبة لعامل الزمن.

* «أنتيغون شاتيلا»: عند الثامنة من مساء 2 و3 و4 أيار (مايو) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 71/427900