سعد هادي
إنها فورة غنائية في ظلّ أجواء غير مناسبة... فضائية خاصة بالأغنيات العراقية هي “القيثارة”، وفضائيات أخرى، بينها: “الخليجية”، “الشبابية”، “نجوم”، تخصص معظم أوقات بثها للأغاني العراقية... من كليبات راقصة إلى مطربين مجهولين وآخرين لم يحققوا شهرة أو ظلوا منسيين لسنوات، واستعراضات صاخبة تقدمها فتيات في شكل هستيري، يستعرضن مفاتنهن قبل كل شيء. كلمات الأغاني ليست مهمة، مجرد ترتيب كلام، حتى وإن كان بذيئاً، أو تجاوز الأعراف، أو لا يعني شيئاً. أما الألحان الراقصة فتستعير إيقاعاتها من الفولكلور المحلي أو من أغنيات حديثة، ولا يتطلب الأداء سوى عدد محدود من العازفين. وتصوير هذه الأغاني بسيط أيضاً، وبأقلّ ما يمكن من التكاليف. يتم غالباً في حديقة مطعم، أو قاعة فندق، أو حتى فيلا تستخدم لتصوير أكثر من أغنية ولأكثر من مطرب. ليس هناك الكثير من التقنيات: إضاءة ساطعة، وإكسسوارات قليلة، وفتيات بملابس سهرة أو سراويل جينز يرقصن من البداية حتى النهاية، ويتغنى المطرب بإحداهن ويتابعها في مشاهد خارجية مكررة أيضاً. بدأت هذه الظاهرة مع أغنية “”البرتقالة” التي قدمها علاء سعد بعد الاحتلال... وسببت ردود أفعال واسعة وهوجمت بعنف عراقياً وعربياً، حتى إن الفنان الكويتي داوود حسين استثمرها في أحد برامجه الكوميدية. كما ظهرت أغنيات نسجت على منوالها تتغنى بالتفاحة والرمانة وحتى الباذنجانة. وبالطبع، فإنها ليست ظاهرة جديدة، إذ تعود أصولها إلى منتصف عقد التسعينيات حين قام عدي، ابن الرئيس الراحل صدام حسين، بإنشاء قناة تلفزيونية باسم “الشباب” ليكسر طوق الإعلام الرسمي الذي كانت تمثله قناة تلفزيونية وحيدة لا تقدم سوى عواجيز المطربين بعدما تمر أغنياتهم عبر سلسلة طويلة من اللجان الرقابية. وقد منح تلفزيون الشباب الفرصة لكل من له الرغبة في الغناء ليظهر على الشاشة، شرط أن يدفع تكاليف تصوير أغنيته، ويدفع مبلغاً عن كل مرة تعرض فيها. وأدى ذلك إلى ظهور موجة جديدة من المطربين اشتهر بعضهم لأسابيع ثم اختفى، فيما استمر بعضهم الآخر ليحقق شهرة عربية لا بأس بها: حاتم العراقي، ماجد المهندس، مهند محسن... كان هؤلاء المطربون إما من مطربي الكاسيت أو ممن أبعدتهم الدوائر الموسيقية خارج أسوارها، لهم مواهب لا يمكن إغفالها أسهمت في تجديد شباب الأغنية العراقية بعد سنوات طويلة من الركود. وبسبب الأحداث الدراماتيكية التي وقعت بعد الاحتلال الأميركي للعراق، اضطر الكثير منهم إما إلى الاختفاء أو الهجرة، تاركين الساحة لمداحين معممين ولقارئي مراثٍ ومنشدي مناحات، تجاهلتهم القناة التلفزيونية شبه الرسمية “العراقية” بسبب اتهامات بارتباطهم بالنظام السابق. واكتفت القنوات الأخرى بعرض أشرطة لأغنياتهم القديمة، فيما اعتبرت القنوات المرتبطة بأحزاب دينية أن ما يقدمونه “رجس من عمل الشيطان”. سكت هؤلاء المطربون مجبرين، وتوافرت لبعضهم فرص ذهبية في الارتباط بعقود مجزية مع شركات إنتاج موسيقي معروفة ليؤكدوا حضورهم عربياً. أما الفورة الغنائية الحالية التي تأتي من خلال فضائية مجهولة التمويل، وفضائيات خليجية كانت تتجاهل الطرب العراقي عن عمد، فقد أعادت إلى الأضواء بعض الأصوات المغمورة. وقدمت أصوات أخرى لم يعد لها مكان في العراق الجديد. ويبدو من خلال ما يقدم أن هناك إصراراً على تقديم وصفة غنائية راقصة لنسيان مرارة الواقع وتجاهل مآسي الاحتلال، فهل ينجح المطربون في ما فشل فيه سياسيو هذه الأيام؟