بشير صفير
تحتفل بيروت هذه الأيام، من قلب المعمعة، بصدور أسطوانة جديدة لتوفيق فرّوخ. في «توتيا» (تشيل آيلند) يواصل الموسيقي وعازف الساكسوفون اللبناني ما بدأه مع «درابزين»، مازجاً الروافد والعناصر... فهل تراه ابتعد عن حبّه الأول؟

  • هذه «موسيقى العالم»... فأين الجاز؟


    شهدت الموسيقى اللبنانية البديلة أربعة إصدارات مهمة في الفترة الأخيرة، تبحر عكس تيار أغاني الأنبوب التي تكاد تستأثر بالمساحة الأكبر في حصيلة الانتاج الفني السنوي. وتلك الاصدارات مثّل كل منها حدثاً ثقافياً، استقبل بالترحاب من الصحافة وجمهور المتذوّقين. وكانت أولى هذه الاعمال، ألبوم «تقاسيم» للفنان مرسيل خليفة الذي جاء تحية الى الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي رافقت قصائده كل مراحل خليفة الفنية. بعد «تقاسيم» خليفة، صدرت اسطوانة «امرأة خطيرة» للمؤلف وعازف العود شربل روحانا. وهذا الأخير كان شريك مرسيل خليفة في الرباعي الذي ضمهما إلى عازف الباص الكهربائي عبّود السعدي وعازف الايقاعات علي الخطيب في ألبوم «جدل». «امرأة خطيرة» هي تجربة روحانا الأولى في مجال النص الملحن، بعدما اشتهر خصوصاً في تأليف المقطوعات الموسيقية (باستثناء بعض المحطات الغنائية القليلة). أما ختام عام 2006 فكان مسكاً، مع أسطوانة «معلومات أكيدة» للفنانة لطيفة التونسية التي حملت، في جزئها الأكبر، بصمات زياد الرحباني شعراً ولحناً وتوزيعاً.
    وها نحن نستهلّ السنة الجديدة بـ «توتيا» الأسطوانة الرابعة لموسيقي الجاز وعازف الساكسوفون اللبناني توفيق فروخ. بدأت مسيرة فروخ في مجال التأليف الموسيقي جدياً مع أسطوانة «علي في برودواي» (1995) التي أتت تجربة أولى لفرّوخ في مجال التأليف، بعد تجربة طويلة وغنيّة له في عالم الجاز، عازفاً على آلة الساكسوفون، وبعد مشاركات عدة ــ تمثيلاً وعزفاً ــ مع زياد الرحباني في الثمانينيات وبداية التسعينيات. أعيد طبع Ali on broadway عام 2004، وصدرت في حلّة جديدة مع إضافة بعض الالكترونيات إلى إحدى المقطوعات (REMIX). وفي عام 2000، صدرت أسطوانة «اسرار صغيرة» التي جاءت لتثبت جدية مشروع توفيق فروخ في مجال التأليف، فيما ولّدت الشعور لدى بعضهم بخسارة عازف ساكسوفون لبناني جيد، لم يحل محله مؤلف من العيار نفسه.
    في عام 2003، جاءت أسطوانة بعنوان «درابزين» لتنال شهرة واسعة، لكنها لم تلبِّ رغبات المحافظين من جمهور موسيقى الجاز، ممن رأوا ان اقحام عناصر “معاصرة” في موسيقى الجاز، بالطريقة التي اعتمدها فروخ في هذا العمل، لم يكن ضرورياً. إذ أتى من باب التجربة لا الحاجة. لكن من جهة اخرى، تلقّى جزء من الجمهور هذا العمل بحماسة، وتجاوب مع نفسه المجدد والمعاصر.

    صوت ريما وكلمات ربيع

    مع بداية العام الجديد، إذاً، أطلق توفيق فروخ عمله الجديد “توتيا” مكملاً ما بدأه في «درابزين» على صعيد مزج الشرقي بالغربي، والصوت الحي بالأصوات الالكترونية. أسطوانة «توتيا» تتميز بغنى لافت، اذا تناولنا محتواها لجهة عدد الموسيقيين (اللبنانيين والاوروبيين) المشاركين، ومستواهم التقني، والآلات الموسيقية الكثيرة المستعملة... وحتى الأنماط الموسيقية المختلفة التي اجتمعت فيها. لكن هناك سؤال يطرح: هل هذا الغنى التقني، يقابله الاكتمال الجمالي المتوقّع؟
    ضمت الأسطوانة الى جانب المقطوعات الموسيقية، اربع اغنيات، واحدة باللغة الفرنسية أدّتها جان حدّاد بعنوان «مصائر ورغبات»: اداء جميل للمغنية الفرنسية، ايقاع ثابت، لحن عادي، وفاصل مرتجل لآلة الفلوت، يمثّل ثقلاً واضحاً في الأغنية، وهو من توقيع احد أهم عازفي هذه الآلة في عالم موسيقى الجاز المؤلف الموسيقي ماجيك ماليك الذي سبق أن اكتشفه الجمهور اللبناني خلال الصيف الماضي، ضمن فعاليات مهرجان LIBAN JAZZ)2006).
    أما الاغنيات الثلاث الأخرى فأدتها ريما خشيش صاحبة الصوت الطربي المثابر في احياء التراث العربي من خلال اعادة تقديم كنوزه في اطار مختلف يعتمد توليفاً جازياً لها. «الحب؟» و«حنينه» و«يا حبيبي»، كتب كلماتها ــ بالتعاون مع فروخ ــ الفنان ربيع مروة الذي سبق أن تعاون مع ريما في أعمالها الخاصة. تتميز الأغنيات الثلاث بمزاجها الشرقي بامتياز، وتأتي مضبوطة على ايقاع مبرمج... على غرار الاغنيات العربية التجارية. ونشير أخيراً إلى أغنية أُعدّت على طريقة الراب، تتخللها فواصل موسيقية شرقية، وتلميحات إلى «الدلعونة» لحناً وكلاماً، وجسور فاصلة من الانفرادات للفلوت والساكسوفون.

    لولا الارتجال

    المقطوعات الموسيقية الواردة في «توتيا» لا تقترب من موسيقى الجاز إلا في بعض محطات الارتجال. ويتولى فروخ ــ الى جانب عزف آلة البزق والساكسوفونات ــ ضبط الايقاع فيها، من خلال آلات ايقاعية أحياناً وبرمجة الكترونية أحياناً أخرى. كما يتولى برمجة الإقحامات الصوتية الالكترونية الأخرى، ويشاركه في التوزيع والبرمجة، عازف البيانو والفاندر رودز لياندرو اكونشا الذي يشارك فروخ في تأليف «يا حبيبي» و«مصائر ورغبات».
    بلغ عدد الموسيقيين المشاركين في هذا العمل اكثر من 25 عازفاً، نصفهم تقريباً من الأجانب الذين بات بعضهم ثابتاً في العمل مع فروخ. نشير بين العازفين اللبنانيين إلى طوني ديب (اكورديون)، سمير سبليني (ناي)، شربل روحانا (عود)، جيلبير يمين (قانون)، ميشال خير الله وأنطوان خليفة وأنيس حاوي ومنى سمعان وكلود شلهوب وريشار سلفيتي (كمان)، نسيب أحمدية وأنجيلا هونايان (تشيلو)، نادر خوري وجيبلير جلخ (كورس).
    «توتيا» أسطوانة تختزن جهداً كبيراً قام به فروخ لكتابة جملها اللحنية وتوزيعها. لكنها تبدو، للأسف، فاقدة الانتماء الى اي نمط موسيقي، من دون ان تتمايز في جوها العام لتوجد هوية متماسكة ومستقلة انطلاقاً من مجموع العناصر المكونة لمادتها الموسيقية. بين حميمية الجاز، وصدق «موسيقى العالم»، وأصالة الموسيقى الشرقية، وغضب موسيقى الراب، وتطور الموسيقى الالكترونية وانحرافاتها، واكزوتيكية مزج الانماط المختلفة... نفتقد موسيقي الجاز المميّز الذي احتفلنا بولادته مع «علي في برودواي».

    توفيق فرّوخ ــ “توتيا” ــ أسطوانة سي دي ــ إنتاج CHILL ISLAND (بيروت)
    www.chillisland.com