محمد خير
لا يكلّ الجارح ولا يمل. يبتكر المشاريع، يؤسس مجلة في مكان يجهل غالبية أهله القراءة، يحاول الحفاظ على التراث الشفهي للمكان، وتأسيس كورال من الأولاد والبنات. يحاول أن يشرح للمسلمين والمسيحيين أنّ عدوهم الطبقي واحد. لكنّ محاولاته كلّها تبوء بالفشل. وكيف تنجح وهو بلا دعم ولا تمويل، والرفاق قفزوا من مركب النضال واحداً تلو الآخر؟ كيف ينجح الجارح في كل ذلك وهو الذي فشل في الزواج ممن أحب، لأن والده الصعيدي “القحّ” رفض زواجه من حبيبته نادية، ابنة استاذه ومعلّمه؟ فكيف يرضى فلاح صاحب أرض ــ مهما كانت صغيرة ــ أن يزوج ابنه من عائلة “الحمّارين”، أي الذين يعملون في علاج الحمير. لقد فشل الجارح في أبسط شؤون حياته الخاصة، فكيف ينجح في الشأن العام؟
في روايته السادسة “أوراق الجارح” الصادرة في القاهرة عن “دار الدار”، يستكمل خالد إسماعيل مشروعه في كتابة التاريخ المنسي للصعيد المصري. ورغم الطبيعة النخبوية للبطل (شيوعي في ريف متخلف)، يمارس خالد هوايته في حكاية عشرات القصص القصيرة التي تتناول تفاصيل بشر عاديين (أكثر من 50 شخصية في رواية لا يزيد عدد صفحاتها على 130 صفحة). لكنها في الإجمال ترسم خريطة خطوطها الفقر والجهل والظلم. تلك الكلمات التي تكاد تصبح مرادفاً لجنوب مصر، مهما بلغت عزيمة الرفيق الجارح عبد الباري الذي لم يشأ أن يصدق أنه يحارب طواحين الهواء بأيد عارية.
بعد مقتله في حادث سيارة غامض، تقع مذكّرات الجارح بين يدي ابن عمه الشافعي، فينشرها بعد مرور سبع سنوات على وفاة ابن عمه. بهذه الحيلة الفنية تبدأ الرواية. ويستهل الشافعي حكايته بلمحة سريعة عن حياة الجارح وعن وفاة أبيه وانتحار أمه، ثم السيارة التي صدمت ابن عمه وفرّت هاربة. ثم يتركنا الشافعي نقرأ المذكّرات بأنفسنا، لنعيش مع البطل انكساراته المتلاحقة.
ورغم مصرعه، لم يذهب الجارح إلى العدم. ترك قصصاً وتأملات في الناس والمكان. ترك وراءه تلاميذ مخلصين يرون فيه القدوة والمثل، وترك مشاريع خطط لها بكل ثقافته وجوارحه وما زالت صالحة للتنفيذ... لو توافرت فقط الإرادة!