رلى راشد

نعرف نادين غورديمر بصفتها مناهضةً للنظام العنصري السابق في بلادها... لكن السيرة التي خصّها بها رونالد روبرتس تعيد النظر في الصورة الرسميّة لصاحبة نوبل، الـ «أفريكانر» التي أخذها سارتر وكامو إلى الكتابة

كان من المفترض أن يكون رونالد سوريش روبرتس صاحب الحظ السعيد، بفضل الكتاب الذي يعمل عليه عن سيرة نادين غورديمر. لكن الروائية الجنوب أفريقيّة شاءت غير ذلك. فقد قررت أن تسحب منه شرعيّته، حين تجاوز الحدود التي تقبل بها، في تناول حياتها الخاصة وأسرارها. وإذا بالكتاب الملعون “ما من مطبخ بارد” الصادر عن دار “إس تي إي” في جوهانسبورغ، يستحيل قبل أشهر قضيّة أدبيّة واعلاميّة! ثمعادت السيرة الملعونة إلى دائرة الضوء، بعدما رشحت لجائزة “ألن بايتون” التي تمنحها مجلّة “صانداي تايمز”، وتعد من أرفع الجوائز الأدبية في بلاد مانديلا. فاستعاد الاعلام احتجاجات صاحبة نوبل (1991)، على الكاتب الذي تصرّف” بحياتها، وفضح “أسرارها” الأدبيّة والسياسيّة!
في البداية، لم يكن سهلاً إقناع صاحبة “وجهاً لوجه” بفتح أوراقها أمام روبرتس. لكن روبرتس استطاع، على ما يبدو، أن يكسب بسرعة ودّ مؤلِفة “ابنة بورغر” (1979)، منذ لقائهما الأول في جوهانسبرغ، مطلع عام 1997، كما روى للصحافة أخيراً. هكذا منحته غورديمر تسهيلات استثنائية طوال مرحلة بحثه الذي استغرق ست سنوات، وتحدّثت إليه عن مختلف جوانب حياتها... وخصوصاً خلال سفرهما معاً إلى لندن وتشيلي. لكن ذلك الودّ كانت يشوبه غالباً شيء من الريبة، ما دفع غورديمر الى وصف كاتب سيرتها بـ “الخطير” واعتبار علاقتهما “غريبة”.
تزخر سيرة غورديمر، كما كتبها رونالد سوريش روبرتس، بعناصر مثيرة يُكشف عنها للمرّة الأولى... ليس أقل تلك التفاصيل المثيرة مفاخرة الكاتبة مثلاً “بخداع الجميع” عندما اختلقت شخصيّتي ابني عمّها روي وهمفري في “طفولة جنوب أفريقية” التي نشرت في “ذي نيويوركر” منتصف الخمسينيات. وقد انزعجت غورديمر من اعترافات مشابهة في كتاب روبرتس. واعترضت أيضاً على الطريقة التي صوّر بها تفاصيل علاقة عاشتها قبل أكثر من خمسة عقود. لكن الأزمة بين الأديبة وكاتب سيرتها، بلغت ذروتها بعدما اعترضت غورديمر، اليهودية المولد، على مقاطع كاملة، حساسة، وردت على لسانها في كتاب روبرتس، عن اسرائيل. وأصرت على توضيح موقفها النقدي من الصراع في الشرق الأوسط، وتحديداً رفضها تشبيه دولة اسرائيل (التي قامت على انتزاع الأرض من أهلها) بنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا (الذي اعتمد الفصل بين الأعراق). وكان موقفها هذا قد شكّل منطلقاً لمقابلات أجراها روبرتس لاحقاً مع إدوارد سعيد، علماً أن السيرة مهداة إلى المفكّر الفلسطيني الراحل.
وغورديمر، كما هو معروف، تلازَم تبلور تجربتها الأدبيّة مع اكتشافها كتابات سارتر وكامو، وتزامن أعمالها الأولى مع وقوفها ضدّ نظام الفصل العنصري، لتستحيل شاهدة على مأساة بلادها. ومن المفارقات التي أثيرت مراراً تحدرها من الأقليّة البيضاء (الأفريكانر) التي كانت تحتكر معظم الامتيازات في أفريقيا الجنوبية. التحقت بصفوف حزب “المؤتمر الوطني الأفريقي”، وصارت من رموزه البارزة... وكانت من بين مجموعة مختارة من الشخصيات التي طلب “أبّ الحريّة” نيلسون مانديلا رؤيتها بعد خروجه من السجن الطويل. وصارت الصورة الأكثر شيوعاً لغورديمر هي صورة الكاتبة السياسيّة، وخصوصاً بعدما منع النظام السابق في بريتوريا ثلاثة من أعمالها.
يستعيد “ما من مطبخ بارد” طفولة غورديمر في قرية المناجم الشغوفة بالأرض “المُعطّرة والملوّنة”، وصولاً الى المناضلة التي لا يرحمها روبرتس. إذ يعتبرها، في الفصول المُخصصة لحقبة ما بعد نظام الفصل العنصري، تجسيداً لـ “ليبرالية البيض الأنانيّة التي تتعامل مع السود تعاملاً فوقياً وأبوياً”. وحكم روبرتس القاسي هذا يسلّط الضوء على الدور المُلتبس لبعض الناشطين البيض الذين عُرفوا بمناهضة النظام العنصري السابق. وفيما اعتبرت غورديمر شديدة الالتصاق بـ “المؤتمر الوطني الأفريقي”، أخذ عليها آخرون “خيانة الخط الثوري”، بسبب انتقادها أخطاء المؤتمر بعدما أمسى في الحكومة. ويذهب روبرتس أبعد من ذلك. إذ يؤكد على أن نادين غورديمر تعاملت بقلة اكتراث مع التدخّل الأميركي في فيتنام، فيما كان هذا التدخّل الشرارة التي أيقظت سوزان سونتاغ ونعوم تشومسكي من غيبوبتهما السياسية.
أكّدت غورديمر أنها لم ترَ تلك السيرة إلا على رفوف المَكتبات. إذ تراجعت دار “فارار ستراوس اند جيرو” الأميركية و“بلومسبيري” البريطانية عن تبنّي المشروع، بعد نشوب الخلاف بين غورديمر روبرتس الذي اتهمته الكاتبة بانتهاك الثقة. إلا أنّ سيرة “ما من مطبخ بارد” صدرت في النهاية عن دار “إس تي إي” الجنوب أفريقية. ولا يكتفي الكتاب باستعادة كرونولوجية لحياة غورديمر، بل يكشف عن الرؤيا السياسة للكاتبة من خلال أدبها. ويقوم روبرتس بدراسة مقارنة بين غورديمر ومُعاصريها، ولا سيما كويتزي شريكها في نوبل. يكتب روبرتس: على المرء الاحتفاء بغورديمر وكويتزي معاً. ولعل الأفضل عدم الاحتفاء بأي منهما، بل قراءتهما: غورديمر مُحلّلةً غنائيّة للتمييز العنصري، وكويتزي حامل راية مناهضة الإمبريالية. ويتداخل هذان العالمان في مؤلف غورديمر “ضيف شرف” (1970) وكتاب كويتزي “في انتظار البرابرة” (1980).
في الواقع، قصص غورديمر ورواياتها مسكونة بشخصيّاتِ “سارتريّة” تُقنع نفسها بأنها لا تدري ما الذي يجري فعلاً. ورواياتها التي تعتبر وريثة واقعية ثرفانتس، تتمحور حول خيبة الأمل، فتفضح الأوهام وتعرّي الكولونيالية. ومع أفول نظام الفصل العنصري وتحرر الثقافة من وطأة العبء الإيديولوجي، تخلّصت غورديمر من عقدة جلد الذات، وراحت تهتمّ بالبحث في مفاهيم مستحدثة للعالم... علماً أن شخصيّاتها بقيت معتقلة في فضاء مغلق، تتقاطع فيه الولاءات العامة والخاصة، فتبدو مرشّحة للاصطدام بعضها ببعض في أي لحظة. هكذا تلاحق اللعنة بول بانرمان، بطل روايتها “عش حياتك” (2005). هذا الخبير البيئي الأبيض يناضل في أفريقيا الجنوبية ضدّ إنشاء مفاعل نووي، فيكتشف أنه مصاب بسرطان الغدّة الدرقية. هكذا سيبقى بفعل العلاج، مُشعّاً لمدّة 16 يوماً، يُحجر عليه خلالها، فيعيد التأمّل في شؤون الحياة والعائلة والمهنة... تحتج غورديمر على تسلّل الآخرين الى حياتها، فيما لم يزعجها قيام مجموعة من الكتّاب بإخضاع أعمالها للمجهر في مؤلف بعنوان: “مسيرة كتابيّة: احتفالاً بنادين غورديمر”... ربما لأن هذا العمل اكتفى آنذاك بتحيّة أدبها.