رام الله ــ يوسف الشايب
رصاص طائش، تهديدات بالقتل، واعتداءات بالجملة... كيف يغطي المراسلون في غزة الاقتتال الداخلي الفلسطيني؟ هل يغلّبون المناقبية المهنية التي تقتضي نقل الواقع على فجاجته؟ أم يستسلمون لمشاعرهم ويحاولون إخفاء بعض الحقائق؟

في ظلّ الاقتتال الداخلي المستفحل في غزة، يعيش الصحافي والمصور تمزقاً داخلياً: هما مجبران على تغطية الأحداث. لكنهما، في المقابل، لا يرغبان بتقديم شهادات ودلائل، تنقل إلى العالم صوراً بشعة عن الجرائم التي يرتكبها أبناء البلد الواحد بحقّ بعضهم...
من هنا، لا يخفي زكريا أبو هربيد، مصور وكالة “رامتان” الفلسطينية، وصاحب تسجيل الطفلة هدى غالية الشهير، غضبه من هذا الصراع الداخلي الذي يقضّ مضجعه يومياً، ويقول: “كنّا في السابق نقف في وجه دبابات الاحتلال، ونصوّر بشاعة المجازر التي ترتكبها إسرائيل ضدّ أهلنا في القطاع. أما اليوم، فترانا نضطر، على مضض، إلى تصوير مشاهد الاقتتال الداخلي المقيتةويضيف متنهداً: “حين تنزل مع الكاميرا إلى الشارع، يتعامل معك الناس على أنك إرهابي، فأنت بلا شكّ تخدم طرفاً معادياً... مرات عدّة منعني مسلحون من التصوير، والمشكلة أننا مضطرون للرضوخ، لأننا في هذه المعمعة لا ندري من أين يأتينا الموت: رصاصة طائشة (أو غير طائشة) قد تنهي حياة أحدنا في أي لحظة”. ويتذكر يوم توجّه لتغطية مسيرة سلمية بالقرب من المجلس التشريعي، كيف كاد إطلاق النار الكثيف أن يقتل أحد زملائه المصورين لولا العناية الإلهية وافتراش هذا الأخير الأرض، “للأسف بات المصور يشتري ما بقي من عمره، ولا يغامر كثيراً من أجل لقطة قد يدفع ثمنها غالياً”.
وإن كان مصورو وكالات الأنباء والفضائيات هم الأكثر التصاقاً بالميدان، فإن مراسلي وسائل الإعلام المحلية والعالمية في غزة ــ وبدرجة أقلّ في الضفة الغربية ــ يعانون الكثير: تهديدات بالقتل وضغوط نفسية، تؤثر في إنتاجية عملهم، وتجعلهم يعمدون إلى التضليل الإعلامي في أحيان كثيرة، ويقدمون تقارير متضاربة عن التصريحات المتضاربة للأطراف المتناحرةويؤكد وائل الدحدوح، مراسل قناة “الجزيرة” في غزة، أن “المخاطر التي نواجهها أثناء تغطية أي عملية عسكرية إسرائيلية في القطاع أسهل مما نعيشه اليوم جراء التناقضات الداخلية... نعمل تحت ضغط نفسي لم نعرفه من قبل، وخصوصاً في ظل التنافر الحاد بين هذه الفئة السياسية وتلك، وبين هذه العائلة أو تلك... أضف إلى ذلك أننا نتلقى الكثير من التهديدات. نعيش حالة عصبية مزمنة، ونخشى الموت في كل لحظة”. ويرى سيف الدين شاهين، مراسل قناة “العربية”، أن الثقافة السياسية السائدة لدى الفصائل والأحزاب الفلسطينية هي أصل العلّة، و“إن لم يكن التقرير الذي أعده يتوافق مع رؤية هذا الطرف، فإنني حكماً منحاز للطرف الآخر”. ويصف شاهين كيف يقيس هؤلاء تغطيتهم الإخبارية بالحرف والكلمة، “كلهم يتربصون لنا. أشعر بخطر دائم، فلا محرمات لدى معظم أطراف النزاع في غزة... وكل ما نخشاه هو أن يعتدي علينا أحدهم ويستهدف منزلنا وعائلتنا، إثر انتقاد قائده لنا”. ولا يزال فايز أبو عون، مراسل صحيفة “الأيام” الذي تلقى أكثر من عشرين تهديداً في الأشهر الأخيرة، يتذكر كيف حولت مكالمة هاتفية من مجهول عيد ميلاد ابنته إلى مناسبة كئيبة. ويقول: “قبل دقائق من إطفاء الشموع، جاءتني مكالمة هاتفية من مجهول يهددني بالقتل... حاولت إخفاء الأمر عن أسرتي، حتى لا أفسد عليهم لحظات الفرح التي باتت نادرة هذه الأيام. إلا أنني لم أنجح في ذلك، فتبددّ الفرح، وبقيت لأيام أعيش حالة من الضغط العصبي، ترجم إلى غضب غير مبرر”. ويؤكد أبو عون أن هذا التوتر انعكس على سلوكهم في المنزل حيث يعيش الأهل قلقاً مضاعفاً، “خرج الأمر عن نطاق التهديد إلى التنفيذ، وبات الجميع مستهدفاً في غابة من البنادق”.
حلّ للأزمة؟
ولكن، وسط هذا العنف المتزايد، ما هي الوسائل التي يعتمدها هؤلاء للخروج من أزمة الاتهام بالانحياز، وبالتالي تجنّب التهديدات والضغوطات قدر المستطاع؟ وجد الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل حلاً مقبولاً يتمثّل في عدم كشف الحقيقة كاملة، ويقول: “نضطر لاستخدام مهاراتنا اللغوية للتعبير عن واقع الحال بطرق مواربة، لكن مفهومة في الوقت نفسه... ما نعانيه ضاعف قوة الرقيب الداخلي لدينا. تقف لنا بالمرصاد كتيبة بأكملها، فلا حماية أمنية أو أخلاقية، حتى إن الحماية العشائرية التي لا نقبلها، تبدو غير كافية”. ويضيف، وقد رسم على شفتيه ابتسامة صفراء: “يتطلب هذا الوضع المتأزم منّا جرأة أكبر في التفاعل وطرح المواضيع، لكننا غير قادرين على الكلام، وخصوصاً أن تأثيرنا لم يعد كبيراً في هذا الشارع المسيّس... لم نعد قادرين على إحداث أي تغيير. وحدها الأسلحة وقيادات الفصائل تفعل ذلك. وهكذا، نحاول الاقتراب من هموم الشارع وملامسة الحقائق من دون إلحاق الأذى بأنفسنا”. أما بالنسبة إلى شاهين وأبو عون والدحدوح، فهم يعرضون وجهات النظر المتضاربة، تاركين للمشاهد والقارئ حرية الحكم.
أخيراً، اتسعت دائرة الخطر لتشمل عدداً كبيراً مـن المراسلين الأجانب الذين تعرضوا بدورهم للخطف والتنكيل. وهو ما حصل مع الصحافي البيروفي خايمي رازوري الذي يعمل في وكالة الأنباء الفـــــــــــــرنسية، والذي أطلق سراحه بعد ســــبعة أيام من احتجازه في بداية السنة الجديدة. قضية رازوري دفـــــــعت منظمة “مراسلون بلا حدود” إلى اعتبار غزة أخطر المنــــــاطق على الصحافيين، وأكثرها انتهاكاً لحقوقــــــــــهم. وقــــــــــدّ حلّ القطاع ثانياً في قائمة المنظمة، على صعيد المستوى العربي بعـــــــد العراق، وأدرج ضمن لائحة العشر دول الأكثر خطراً في العالم. وقد دفع هذا التقرير بالكثير من المراسلـــــــــين إلى الهروب من غزة نحو الضفـــــــــة الغربية أو القدس، أو حتى خارج الأراضي الفلسطينية، حتى إن العديد من الصحافيين الفلسطينيين يـــــــــؤكدون أنه بالكاد تجد صحافياً أجنبياً واحداً في القطاع.