حسين بن حمزة
في مجموعته الشعرية الثانية “صيف يوناني” (“دار ميريت” ـــ القاهرة) يحفر الشاعر السوري صالح دياب، المقيم في باريس، في الموضع الذي بدأه في “قمر يابس يعتني بحياتي” (2000). ولعل قيامه بنشر بعض قصائد مجموعته الأولى في المجموعة الجديدة، يعزز هذا الانطباع لدى القارئ.
يمكن اختزال فكرة هذا الموضع، بمجموعة من الممارسات الأسلوبية التي يلجأ إليها صالح دياب لإنجاز قصيدته. وتتمثّل هذه الممارسات في عمله على تكثيف قصيدته إلى درجة قد تصبح فيها سطراً واحداً أو صورة شعرية مفردة، ثم يقوم بتنظيفها من شوائب البلاغة التقليدية، ومن فصاحتها الخارجية. وفي أثناء ذلك، عن قصد أو دون قصد غالباً، يتم التخلص من الوقائع الحياتية، أو الأحداث المباشرة التي يمكن أن تتسلل إلى أي قصيدة أو تتدخل في صياغة بنيتها.
الواقع أن هذه الممارسات تزيد من حضور التقنية والأسلبة على حساب تنوع المعنى والبناء، لكنها تزيد، في الوقت عينه، من القوة التأملية للقصيدة وتجعلها رقيقة وخافتة ومكتفية بنفسها تقريباً.
ما يكتبه صالح دياب يقع في هذه المنطقة الخطرة التي قد يغامر فيها الشاعر بالذهاب بعيداً في صناعة نبرة شعرية واستثمار تقنيات أسلوبية، ولكنه غالباً ما يعود بحصيلة وافرة من الصور والانتباهات الشعرية المدهشة. هكذا يستطيع القارئ أن يلمس عمل الشاعر المزدوج على تكثيف القصيدة، وعلى تصيّد الصورة المباغتة.“أصفنُ في الصور / تخفق بين يدي / كالقمصان على السطح”، أو “الغياب / وهو يتعثر / بثوبه الأبيض الفضفاض”
كأن قصائد الكتاب، التي تركها الشاعر بلا عناوين، مكتوبة بمتطلبات الرهافة والدعة، ومؤلفة وفق مزاج وحساسية خاصة في استخدام الكلمات. كأن القصيدة موجودة في الكتاب بدون المسودات التي ترافقها عادة. القصيدة، بهذا المعنى، مكتفية بأنفاس وإيماءات، ومتخلية عن الجلبة والضوضاء. إنها أساساً خفيضة النبرة، والأرجح أن هذا المقطع يلخص مساحة واسعة من الطموحات التي تفكر فيها كتابة صالح دياب: “إنني أنصت / إلى هسيس أجنحة عشرة آلاف حمامة / تطير في صمتكِ”.
في قصائد كهذه، تفضّل الصمت على الثرثرة والكثافة على الترهل والمحو على الاستطراد، بالكاد يمكن العثور على المواد الأولية التي دخلت في تركيبها. في إحدى القصائد يأتي ذكر لباريس وحضور واضح لبعض معالمها، ولكن هذا الحضور يدخل إلى القصيدة بعد أن يقدم طقوس ولاء للنبرة الشعرية وحساسيتها ومزاجها: “ذهبتُ إلى باريس / ودرّبتُ ندمي على الطيران... أحتاج وقتاً / كي أجد برج إيفل / في علبة ماكياجك / ونوتردام / في الجارور”.