strong>رلى راشد
حين اطّلع فوينتيس وكورتاثار على مخطوطة “مئة عام من العزلة”، أدركا أنهما أمام “عمل خالد”. والرواية التي يحتفل العالم بمرور 40 عاماً على صدورها، تكاد تختصر كلّ تجربة “غابو” ماركيز. جاءته في الرؤيا، وغيرت مجرى الأدب العالمي، وصولاً إلى لغة الضاد...

باعت أكثر من 30 مليون نسخة، تُرجمت الى 35 لغة، واستغرق مخاضها 18 شهراً من العزلة، قبل أن يفرغ منها مبدعها فتخرج إلى النور... إنها رواية الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1928) التي صارت مرجعاً في تاريخ أدب أميركا اللاتينية والأدب العالمي. “مئة عام من العزلة” (1967) تحتفل هذه السنة ببلوغ عقدها الرابع، وتتقاطع هذه المناسبة مع مرور ربع قرن على نيل مؤلفها جائزة نوبل للآداب. هذه المرة، لن يستطيع ماركيز الإفلات من الاحتفال الشعبي برائعته التي طبعت جيلاً كاملاً من كتّاب أميركا اللاتينية والعالم. ومن بين التحيات الموجّهة إلى صاحب “الحب في زمن الكوليرا” (1985)، الاحتفاء الذي يقيمه “المؤتمر الدولي للغة الإسبانية” في آذار (مارس) المقبل في مدينة كارتاخينا دي اندياس الكولومبيّة.
“مئة عام من العزلة” تختزل أدب ماركيز برمّته. رائد “الواقعية السحرية” تناول في روايته هذه تاريخ بلاده، من الاستعمار والحروب الأهلية والتدخّل الاقتصادي الأجنبي الى اندثار نمط العيش الأصلي... إنّها قصّة “ماكوندو”، القرية (الوهميّة) التي تنزلق تدريجاً الى الفناء، من خلال أجيال عدة من عائلة آل بويندييا. وعلى ما يبدو، ستبقى هذه القرية وهمية... ولن تهجر العالم المتخيّل لتتجسّد في الواقع. لقد رفض أبناء اراكاتكا، مسقط رأس ماركيز التائه على الساحل الكاريبي، أن يضيفوا كلمة ماكوندو الى اسم بلدتهم في استفتاء شعبي أُجري أخيراً. على أي حال، لقد أثبتت ماكوندو قابليتها للحياة، بعدما تخطّت الرواية طابعها الأدبي... لتُمسي أشبه بالكتاب ــ الرؤية.
وعزّز هذا الأمر ما سرده ماركيز بنفسه مراراً عن رواية “حلّت” عليه كالرؤيا السعيدة، وهو في طريقه الى أكابولكو على المحيط الهادئ، في أحد أيام كانون الثاني (يناير) 1965. تحدّث ماركيز عن لحظة التماع سحري باغتته، وزوّدته بمفاتيح الوصول الى جغرافيا بحث عنها منذ سنوات، ربما منذ قرأ رواية مواطنه خوان رولفو “بيدرو بارامو”. يؤكّد صاحب “عشت لأروي” أنّ رائعته “مئة عام من العزلة” تراءَت له “بكامل نضجها”، حتّى إنّه تمكّن من كتابة فصلها الأول، كلمةً كلمةً، دونما حاجة الى تبييضه لاحقاً.
ماركيز العربي
منذ نشر في السابعة والعشرين “عاصفة الأوراق” التي ساقته الى درب “المخاطر” ــ ولعلّ تلك الدرب هي الأكثر التصاقاً بمخيلته، وعالمه الحافل بالفانتازيا المُفرطة ــ عرف ماركيز قدراً استثنائياً: لقد حقق حلم كل كاتب إذ نجح في الوصول الى القارئ العادي، وفي إرضاء أشدّ النقّاد تطلّباً في الوقت عينه. ولاقى أدبه استحسان مؤلّفين انتموا الى الشطر الشمالي من القارة الأميركية، بينهم فولكنر الذي شرّع له أدب ماركيز أفق تجريب معادلات تعبيريّة مُستحدثة...
وذهب الكاتب المعروف بمواقفه السياسية الملتزمة إلى لقاء لغة الضاد عن طريق الترجمة منذ ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. فقد جلب صاحب نوبل في أعماله، ولا سيما في “مئة عام من العزلة”، تلك الحساسيّة التي بدّلت مفهوم الرواية والقصّة في العالم العربي ومنطلقاتها ولغتها. هكذا، وجد الكتّاب العرب في مشاعر الحنين والخسارة الشخصيّة التي طبعت كتابةً روائيّةً توغل في التاريخ والخصوصيّة القوميّة، عناصر جديدة لمقاربة واقعهم، ولصياغة العلاقات الإنسانية التي تنسج في إطاره. كما اكتشفوا تقنيات جديدة لمقاربة التاريخ والسلطة وتجاوزاتها. في “مئة عام من العزلة”، تبدو اللغة كأنها وجدت قبل الواقع، وتُصبح الكلمات بالتالي شرط تكوّن الأشياء. تحمل الكلمات نبوءة تنطق بها شخصيّات الرواية، وتتغلغل أيضاً في مخطوطات يصعب فكّ ألغازها.
مزيد من العبث
تمتد أحداث “مئة عام من العزلة” على قرن من الـــــــــــــزمن، وتمرّ على ستة أجيال من عائلة بويندييا. هي قصة سلالة تبدأ مع خوسيه اركاديو بويندييا، لتصل الى موت آخر فرد من العائلة. في البداية، تبدو ماكوندو كأنها تشهد ما يشبه الحــــــــــــقبة الذهبيّة المطبوعة بالبراءة والبساطة، لكنها تنزلق نحو الحروب الأهليّة والصراعات الاجتماعية التي تجلبها إليها حضارة مزعومة، فتغرق بعـــــــــــدها في الانحدار حــــــــتى الفناء الكلي.
يأخذنا ماركيز في “مئة عام من العزلة” بـ“واقعيته السحريّة” الى متعة نقيّة وبسيطة، ويحمّل روايته أكثر من تأويل. ليست ماكوندو البديل الشاعري عن اراكاتكا، أو حتى صورة رمزيّة عن القرية الكولومبيّة التقليديّة فحسب. إنها أيضاً تأطير للاستعارة الكونيّة عن التاريخ اللاتيني، وربما حتى عن التاريخ الغربي منذ “عصر التنوير”. تبدو الرواية أيضاً تنويعاً على الحكاية الإنسانية التي تُصوّر من خلال أساطير توراتيّة (الخلق ونهاية العالم والبطاركة والأنبياء والجنّة الأرضية، والجنة الأخرى المفقودة، وأرض الميعاد والطوفان) ومن خلال إسقاط بعض المعايير التوراتيّة أيضاً.
تجمع “مئة عام من العزلة” بين العام والخاص في معادلة مدهشة، يتداخل فيها التاريخان الوطني والشخصي. إنها رواية تحلم بإرساء مجتمع عادل، وربما أيضاً تحنّ الى طفولة ضائعة على الطريقة الـ “بروستيّة”. تنطلق من فرضيّة نقديّة قد تكون سرّ الأثر القويّ الذي تركته في العرب تحديداً: فالعجز عن التعلّم من الأخطاء الشخصيّة، وغياب الوعي التاريخي، يُمسيان اللعنة التي تحلّ على تلك القرية، مسرح الأحداث. وللرواية سمة تراجيدية، علماً أن الشخصيّة الرئيسة ليست تراجيديّة بالمعنى التقليدي للكلمة. أوريليانو بويندييا لا يدرك مصيره، بل ينسحب من المجتمع حين لا تلاقي قيمُه غير الفشل، ويسلّم بالنسيان التاريخي... وفي ذلك تماهٍ مع قناعة “غابو” ــ كما يلقّب ماركيز ــ بأن الزمن الذي نعيش، لا تمكن مواجهته سوى بمزيد من العبث.
يوم قرأ ألفارو موتيس وكارلوس فوينتيس وخوليو كورتاثار أولى مخطوطات “مئة عام من العزلة”، أدركوا أن صديقهم ماركيز أنجز “عملاً خالداً”. بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على تلك اللحظة، بتنا على يقين من أنهم لم يبالغوا البتّة في حكمهم آنذاك.