حسين بن حمزة
منح المنتدى الثقافي اللبناني في باريس جائزته هذا العام، وقد حملت اسم الراحل محمد الماغوط، للشاعر الأردني أمجد ناصر. وحصول أمجد ناصر على هذه الجائزة يكتنف أكثر من معنى. فقد سعى هذا الشاعر، منذ بداياته، إلى خلق نسب بيروتي لتجربته الشعرية. هكذا، قصد بيروت عام 1977، حيث أصدر مجموعته الشعرية الأولى “مديح لمقهى آخر” (1979). لم يكتفِ أمجد بذلك، بل ضمّن تلك المجموعة قصائد التفعيلة التي كان قد كتبها في الأردن، وأضاف إليها قصائد نثر أنجزها في بيروت. ويكشف هذا الأمر المدى الذي كان أمجد ناصر طامحاً إلى التورط والانخراط فيه، وهو يعرّض عبارته الشعرية الفتية، وقتها، لتأثيرات المختبر الشعري البيروتي الذي كان بصحافته وسجالاته المفتوحة والمتنوعة محط أنظار الكثير من الشعراء والكتّاب العرب. لذا، وفي أول تعليق له على خبر الجائزة، قال أمجد: “إن أهمية الجائزة بالنسبة إليّ أهميّة مزدوجة. فالماغوط أحد أبطالي الشعريين، وأحد رموز الحداثة، واللجنة التي منحتني الجائزة لبنانية، ما يعني لي الكثير لأن تكويني الثقافي الأساسي لبناني... فأنا أعتبر نفسي، بصورة أو بأخرى، لبنانياً”.
بحصوله على هذه الجائزة، تزداد ديون بيروت في عنق الشاعر. لكنها، في الوقت عينه، تبدو نوعاً من ترحيب بيروتي قديم وطويل يُختتم اليوم باعتراف وتقدير مؤثرين. المدينة التي سعى الشاعر إلى صنع انتماءٍ شخصي وشعري إليها، ترد له التحية.
إذا كان هذا ما تقوله “لحظة” الجائزة، فإن الواقع يُظهر أن أمجد ناصر نال الاعتراف والتقدير قبل الجائزة بكثير. الجائزة هي مجرد لفتة، مقارنة بما راكمته نبرة هذا الشاعر المتميزة التي بدأت بانقلاب على الوزن، قبل أن تخضع لانتقالات أسلوبية وتخييلية عديدة. ويبدو أن عباس بيضون كان محقاً حين اختار تسمية “سندباد بري” عنواناً للمقدمة التي كتبها للأعمال الشعرية الكاملة لأمجد ناصر (2002).
نوعان من الارتحال تدخّلا في صياغة جملة هذا الشاعر وحياته، ارتحال في الأمكنة (عمان، بيروت، قبرص، لندن) وارتحال في القصيدة. بعد مجموعته الأولى التي استقبلت بحفاوة، خاصة من سعدي يوسف، انتقل أمجد نهائياً إلى النثر. وفي مجموعاته اللاحقة، كان يبدو كمن ينهمك في تجربة وموضوعات ومشاغل قبل أن يتركها وينتقل إلى تجربة مختلفة. هذا على رغم أنه احتفظ، في انتقالاته تلك، بالمزاج الشعري نفسه الذي يتبدّى في إصغاءٍ واضح للارتيادات التي تذهب إليها عبارته الشعرية، وفي وعي نقدي ونظري للمجرى، أو الموضع، الذي تحفر فيه قصيدته. وهو ما تمكن معاينته في مجموعة “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” (1981) التي زاوج فيها، شعرياً، بين مكونات المكان الأول ومسعاه البيروتي. كذلك الأمر بالنسبة الى “رعاة العزلة” (1996) التي كتب فيها نشيده الشخصي المنخفض النبرة، وفي “وصول الغرباء” (1990) التي سجّل فيها أجزاء من تغريبته اللندنية، قبل أن يأسره تدوين الشغف وكتابة الجسد في “سُرّ من رآك” ( 1994)، ثم في “مرتقى الأنفاس” (1997) التي أعاد فيها كتابة الأيام الأخيرة للعرب في الأندلس، ولكن من وجهة نظر نثرية خالصة.
ويبدو أن أمجد لم تكفه هذه الانتقالات، فعاد ليفاجئ القارئ بمجموعته “حياة كسردٍ متقطع” (2005) التي ضمت قصائد نثر مكتوبة بأسطر كاملة، وذات بنية سردية لا تتردد في إعلان انحيازها ليس إلى النثر، بل إلى نثر النثر.
ألم يقل أمجد عن نفسه أكثر من مرة، بأنه ليس شاعر قصيدة واحدة أو مشروع شعري واحد، بل شاعر قلقٍ ومزاج.