القاهرة - وائل عبد الفتاح
  • كفّر الأقباط في كتاب جديد نشرته الدولة المصريّة... قبل أن «تعدمه» خوفاً من الفضيحة!
    قلّة تعرف أن “المفكر الاسلامي” محمد عمارة بدأ حياته ماركسياً... فهل بات اليوم من فقهاء الظلام؟ السؤال مطروح بعد صدور “فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية” الذي ضمّنه سموماً من النوع الرائج اليوم في بعض الكتب الدينية

    الخبر لم يكن مثيراً: وزارة الاوقاف المصرية اعدمت الأسبوع الفائت نسخاً من كتاب المفكّر الاسلامي محمد عمارة «فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية». ويعود غياب الاثارة الى قصّة أكثر سخونة سبقت هذا الحدث. إذ عثر كاهن ومحامي من اقباط مصر على صفحات في كتاب عمارة، تعلن صراحةً أنّ المسيحيين (يستخدم الكتاب التعبير القديم أي النصارى) كفرة ملحدون، وبالتالي فأموالهم ودماؤهم مستباحة. هذه الفتوى تُردّد منذ سنوات على منابر المساجد في مصر، وفي جلسات اجتماعية. هكذا، تغلغلت الفكرة في الوعي مع تراكم السنين، وانتشار العقلية القبلية التي تنفي الآخر وتدعوك إلى إقصاء جارك ما دام لا يشبهك... وتضعك على قائمة الاغتيال إذا خرجت عن «الصورة» التي يرسمها المجتمع لنفسه، من وحي افكار تمنع التفكير.
    لم يكن صعباً الادراك بأنّ اعدام الكتاب جاء محاولة ارضاء شريحة في المجتمع المصري، تعيش وتفكر كـ «أقلية»، وتعاملها الدولة كأقلية، مع انها تنكر ذلك في خطابها الرسمي. وكان طبيعياً أن يتسرّب خطاب الأقلية المقبولة على مضض، من مجتمع منسجم دينياً بل ينتمي في أغلبه إلى مذهب السنة. الأكثريّة لا تعرف عن الأديان الأخرى سوى شذرات. ولم تعد طاقتهم على التحمّل تستوعب الأفكار المنسية عن التعدد، وقبول الآخر، أو حتى مبادئ الوحدة الوطنية النابعة من ميراث ثورة 1919 وقوامه انصهار عنصري الأمة. على رغم ان الفكرة كان يفترض تجاوزها، منذ فترة طويلة، الى فلسفة المواطنة والدولة التعدديّة. لدينا الآن أمة مهزومة، ودولة لا تعرف سوى ترميم الشروخ بركاكة... وهنا يلمع مفكرو الهزيمة! خفافيش الافكار يظهرون في ظلام الهزيمة، ويقودون الجموع المحبطة بغريزة الفتك بالآخر. تحركهم رائحة الدم وتلعب في خيالاتهم متع تحويل املاك الجار المختلف الى غنائم حرب وهمية!!
    هكذا لم تنزعج الدولة لأنّ الكتاب صدر عن مؤسساتها الدينية، وبالتحديد عن «المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية»، ضمن سلسلة «قضايا اسلامية»، وبسعر تشجيعي (جنيه واحد). ما أزعج الدولة، هو قيام أحد على الطرف الآخر بفضح تورطها في خطاب الاستبعاد على الهوية الدينية. خطاب الدم الديني السائل في الشوارع، أصبح مدعوماً بخاتم الدولة... وليس مجرد جماعات متطرفة مهووسة بتحريض الجماهير العمياء على الكراهية، لا كراهية الآخر فحسب، يل كراهية الحياة. كان «فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية» سيمرّ، وتمر معه افكار تتسرب منذ سنوات في الكتب الدينية، وجوهرها تكفير كل من لا يؤمن بالاسلام. فالتكفير لا يعني النظرة المتعالية فقط على اتباع الديانات الاخرى. إنما هو عملية «اقصاء» سياسي واجتماعي، ودعوة غير مباشرة إلى القتل واستباحة الدماء، وربما الطرد خارج البلاد.
    فكرة تكفير الاقباط مرت في كتاب محمد عمارة بطريقة عابرة. ولم يتوقع هو أن يكتشفها أحد. إذ كان هدف الكتاب شرح فظائع التكفير بين الفرق الاسلامية، وتأثيرها في انشقاق وحدة الأمة. ولكي تكتمل الدعوة، لا بد من صناعة عدوّ، وتحديد هوية الكافر الملحد الذي يخلد في النار بعد الموت، ويستباح دمه وأمواله في الحياة. هكذا جاءت فكرة تكفير المسيحيين (واليهود طبعاً) باعتبارهم كذّبوا النبي محمد.
    إعتمد عمارة في أحكامه (أو فتواه) على الامام أبو حامد الغزالي في كتابه «فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة»، واضاف من عنده لتشمل الاحكام اليهود والنصارى المعاصرين. أي أنه استعان بمفكر اسلامي محافظ، لمعت افكاره في ظل حروب دينية ومذهبية، ليطبقها على مجتمع محشور منذ سنوات في نفق التحديث. وعندما أثيرت الضجة السياسية، وتقدّم مرقص عزيز، كاهن الكنيسة المعلّقة، ببلاغ إلى النائب العام، اعتذر محمد عمارة اعتذاراً مرواغاً جاء فيه أنه «استغرب الضجة التى صاحبت صدور كتابه. وفوجىء بمن يردد ان كتابه يكتنف استباحة دماء غير المسلمين». وأكد عمارة بأنه أخطأ، حين نقل عن الامام أبو حامد الغزالي من دون ان يتنبه الى أن كلام الغزالي يتعلّق باباحة الدم.
    هكذا بكل بساطة: اعتذار لا يكلف نفسه عناء التراجع عن فكر التكفير. وعلى رغم «اعدام» الكتاب، اصبح ملكاً لقراء يتلقفون هذه الكتب التي تثبت أنّ لعقيدتهم السيادة. إنّه ليس كتاباً بل «تذكرة داوود» تعالج النرجسية الجريح. والدكتور محمد عمارة أستاذ متخصص في تهييج النرجسية، وشحن العقول العاجزة عن التفكير بسموم معاصرة... واذا حذفت كلمة «الاسلام» من كلماته، سيخيّل إليكَ أنّه يقرأ بياناً للحزب النازي. يتحدث بمنطق مخيف، يوزع الاتهامات... ويعطي صكوك الغفران. إنّه «زعيم» بلغة أهل السياسة، و»فتوة» بلغة الشارع ــ كما كان تقريباً وهو في تنظيمات الماركسيين السرية.
    الأديب المصري ابراهيم اصلان حكى بطريقته الساخرة عن الليلة التي أراد خلالها اصدقاء من عتاة الماركسيين أن يقدموا له هدية. وعدوه بلقاء «شخص خطير» في التنظيم. أصلان أعجبته الاثارة، وتحرك فضوله للمقابلة فقالوا له: «سنطلب موعداً». في الموعد، اكتشف أنّ الامر ليس بسيطاً. شعر بالرعب والاصدقاء يحكون له عن تأمين منطقة التوفيقية التى سيتم فيها اللقاء. شعر وهو يتحرك في الشوارع الضيقة انه تحت المراقبة، وامتزجت اثارته بالرعب. ليكتشف أخيراً أن الرجل «الخطير» ليس سوى... محمد عمارة! «زعيم مهم» كل ملامحه تشي بالخطورة والجدية الفاخرة. يتكلم قليلاً، وينظر بعيداً. و في كلامه تعليمات حتى وهو يعرض أفكاره.
    لم يضحك أصلان وقتها (في الستينيات) بل بعدها بسنوات، وهو يحكي الواقعة، بعدما حمل «الزعيم الخطير» لقب «دكتور» في الفلسفة الاسلامية، ويرتدي عباءة ريفية على بدلة موديل السبعينيات. ويطلّ من خلال الفضائيات، باعتباره مرجعاً اسلامياً وشيخاً لا ترد له فتوى. الشيء الأساسي الذي لم يتغير هو لغته الخطابية وطريقته في تقسيم العالم الى قسمين: «معنا» و»علينا»... او «معسكر الخير» و «معسكر الشر»، إذا فضّلنا المصطلحات الجديدة التي يتحرك في مدارها، جورج بوش وبن لادن على السواء.
    بهذه الطريقة تكتسب كتابات محمد عمارة حضوراً في مراحله المختلفة، لأنها تعتمد على مداعبة الرأي العام، وضبط الافكار على موجات «ما يطلبه المستمعون». يسرق الكاميرا والميكرفون بخطاب زاعق وحماسي، لا يدعو الى التفكير بل الى الحشد على طريقة جماهير مصارعة الثيران... المتعطشة للدماء.