سهى صبّاغ
أصدرت «دار الفنون الجميلة» عشرة كتب ضمن مشروعها لتأريخ الفن التشكيلي اللبناني. الحلقة الجديدة
بتوقيع جميل ملاعب، عبارة عن بورتريه لفنّان يحبّ اللعب بالألوان، وتحضر الطبيعة بقوّة في لوحاته... لكنّ بيروت الحرب الأهلية تخيّم أيضاً على الكتاب


قلّما يقع الباحث في تاريخ الفن التشكيلي اللبناني على معلومات وافية عن كتب متخصصة في هذا المجال أو حتى كاتالوغات تحفظ أعمال الحركة التشكيلية اللبنانية. من هنا، تأتي أهمية مشروع «منشورات دار الفنون الجميلة» التي أصدرت حتى الآن 11 كتاباً ضمن مشروعها لتأريخ الفن التشكيلي اللبناني عبر إصدار مجموعة كتب لفنانين لبنانيين، من بينهم التشكيلي جميل ملاعب الذي أصدرت له كتابين حتى الآن.
لا شك في أنّ هذا المشروع يمثّل خطوة جريئة أقدم عليها سيزار نمور صاحب «منشورات دار الفنون الجميلة»، الذي يقول إنّ طباعة الكتب المتخصصة في هذا المجال تهدف الى محاولة تأريخ الفن اللبناني، على رغم عمر هذا الفن الصغير نسبياً في لبنان (حوالى 60 سنة) بالنسبة الى تاريخ الفن التشكيلي في أوروبا مثلاً الذي يمتدّ الى مئات السنين.
ضمّ الكتاب الأول لجميل ملاعب 200 لوحة تحكي قصة القرية اللبنانية. أما الكتاب الثاني “جميل ملاعب: صورة ذاتية” فيستعرض مسيرة هذا الفنان الذي ولد في بيصور في قضاء عاليه (1948)، من خلال نصوص تختصر مسيرته الفنية وصوراً عن أعماله في مختلف مراحل حياته الفنية وتنقلاته بين بلدان عدة للدارسة والرسم. الملاحظ في الكتاب أنّ الفنان لم يحدّد أو يصنّف أعماله ضمن مراحل فنية معينة. هو يرسم على هواه من دون حصر نفسه ضمن مرحلة معينة. هكذا، تجد أحياناً بعض الأعمال المتشابهة في المناخ والأسلوب والتقنية، أُنجزت في فترات زمنية متباعدة. إلا أنّ الكتاب مقسّم الى أقسام عدّة، يحتوي كل قسم على مجموعة من الأعمال واللوحات المشغولة بمادة معينة كالغواش، الباستيل الزيتي والطبشوري، الاكريليك، الزيت، المحفورات والمطبوعات الخشبية والملونة، النحت والموزاييك.
العولمة الساحقة
يرى ملاعب أنّ فنّه تأثر بشكل إيجابي بالتكنولوجيا الحديثة. بل يرى أنّه يمكن استخدام الكمبيوتر مثل الريشة، مضيفاً إنّ الآلة تساعد لكنها بحاجة الى روح، ويد الفنان هي التي تبثّ فيها الروح. الا أنّه يرفض “العولمة الساحقة” حسب تعبيره، التي تريد أن تسطّح عقله وتقطعه عن جذوره وتلغي أصالته وتطرد أحلامه. وفي لوحاته تشبّث واضح بالتراث والفولكلور الشعبي الذي يقول عنه إنه «دَمُنَا الذي نعرفه من فئته الخاصة التي تشبهنا، هو خميرتنا الفنية». هكذا، تطالعنا المواضيع الفولكلورية في الكثير من أعماله. إذ قام الفنان برسم الأشخاص الذين يرتدون الثياب الفولكلورية، فيما رسم في أعمال أخرى شخصيات وأفراداً من قريته يلبسون الزي التقليدي. كما تطرّق للأجواء الاحتفالية في القرى اللبنانية مثل المناسبات الشعبية والأعراس وتلاقي الناس بعضهم مع بعض، ورصة الدبكة والعزف على العود.. هذا الفنان عرّف بنفسه في كتابه بأنّه واقعي، يرسم الناس وهم يعملون في الأرض، وهم يحتفلون في الأعراس، وهم يقيمون المآتم ويرقصون في الحلبات. هو “يحب الاحتفال بالحياة والولادة والأسطورة التي تحدّد أحلامنا وإيماننا”.
في أعمال أخرى، يرصد هذا التشكيلي اللبناني التفاصيل الصغيرة والزوايا العديدة من قريته بيصور: رسمَ البيوت من الداخل، والغرف التي توحي بالشتاء والدفء في إنارة خفيفة مضاءة بألوان قوية، الصوبيا للتدفئة وإبريق الشاي ولا ننسى الزخرفة الموجودة في أثاث المنزل. وبالطبع حضرت الطبيعة والورود والطيور بشكل قوي في أعماله. فهو يرى في الطبيعة “صديقتي وبحري وسمائي وصداقاتي. حين أتعامل مع الطبيعة تستكين أسئلتي عن الحياة والوجود”. هكذا، حمل بعض أعماله عناوين مثل “فاكهة الصبّار” “وردة صفراء” “الباب الخلفي” “في الربيع” “حرية” “غرفة الشتاء” و “وجه من نيويورك” والمرأة العارية في “الموديل العاري”. والمرأة موضوع تناوله منذ عام 1972 حتى الآن. ويرى أنّه حين يرسم المرأة العارية، تصبح موضوعاً فنياً يكتسي ثوب الجمال.
لم يكتفِ الفنان بذلك. رسم بيروت الممزّقة بالحرب الأهلية. وكان سبق أن كرّس كتابين لهذه الثيمة بالأسود والأبيض تحت عنوان «دفتر الحرب الأهلية» (1977) و “قرباً من الوطن” (1979). أتت هذه الرسوم شبيهةً بدفتر مذكّرات عن الحرب وعناصرها. إنّها قصة الحرب الأهلية مكتوبة بصور تعبيرية و«دواوين» بصرية.
العفوية والجرأة
يبرز في الكتاب اعتماد الفنان على العفوية والجرأة في استعمال الألوان، كما يبدو أحياناً أنّه يستخدم الموضوع والعناصر في اللوحة كذريعة للعب والتمتع باللون وتوزيعه. وفي المنطق ذاته، يبدو أنّه استفاد أحياناً من حركة الزخرفة العربية في طريقة التوزيع والتكرار في استخدام الخطوط والعناصر كما في لوحته «دبكة». يشتغل هذا الفنان على المساحات اللونية والتبسيط في معظم أعماله، وهو يمتلك مخزوناً كبيراً من الصور والألوان في ذاكرته كونه فناناً جوالاً دائم التنقل والترحال بين المدن والبلاد العربية.
إلّا أنّ “جميل ملاعب: سيرة ذاتية” كتاب يفتقر الى نص نقدي يدل القارئ على كيفية قراءة عمل فني من جهة الأسلوب وطريقة استعمال الألوان والتعرف الى المدرسة التي ينتمي اليها الفنان. إلّا أنّ ملاعب يقول في كتابه: “لا أنتمي الى مدرسة معينة، أصنع لوحتي كما أصنع قهوتي الصباحية. أشتغل لوحتي وأتناولها كما أتناول المآكل والفاكهة والخضر الطبيعية العارية من الإضافات والتركيبات الكيميائية المصطنعة”.
في كل الأحوال، لا نستطيع إلّا التوقف عند هذا المجهود الفردي الذي يمثّل نقطة مضيئة ومفيدة جداً بالنسبة الى القارئ وتحديداً الباحث في مجال الفن التشكيلي اللبناني.