باريس ــ عبدالإله الصالحي
لا يعرف قرّاء الضاد ميشال أونفري، مع أن مؤلفات هذا المفكّر الفرنسي المغاير التي تُرجمت إلى عشرين لغة، حققت أرقام مبيع قياسية. إنه فيلسوف اللذة، بالمعنى الوجودي والمادي الأشمل، والسياسة في نظره جزء لا يتجزأ من فنّ الحياة

  • تلميذ نيتشه ودولوز... إذ ينتهر «يسار اليسار»

  • مع اختفاء الأسماء الفرنسية الكبيرة في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية، من سارتر إلى جاك ديريدا مروراً بميشال فوكو وألتوسير وجيل دولوز ورولان بارت، انحسر تأثير المثقفين في المشهد السياسي الفرنسي. هكذا، باتت الساحة الإعلامية تغص بأشباه المثقفين، وبأولئك الذين يبحثون عن التألق الإعلامي، ويتخصّصون في كل كبيرة وصغيرة لإخفاء عجزهم عن إبداع أعمال وأطروحات أصيلة تضعهم في خانة المبدعين الكبار.
    لكن، لحسن الحظ هناك بعض الاستثناءات والحالات النادرة... كتاب وباحثون ومفكّرون ما زالوا يشتغلون بصمت على مشاريعهم الفكرية، من دون أن يستسلموا لإغراء الثرثرة الإعلامية وبريق الكاميرات التلفزيونية. وفي الوقت نفسه يحتفظون بالقدرة على الضرب على الطاولة بقوة، من حين الى آخر، لفرض فكرة ما... أو التنبيه إلى خلل معين في المجتمع أو في الحياة السياسية. من بين هؤلاء، المفكر والفيلسوف الفرنسي الشاب (نسبياً) ميشال أونفري. على رغم أنه لم يتجاوز الخمسين، برهن هذا الفيلسوف منذ عقدين على أنه سليل حقيقي لكبار الفلاسفة الذين صنعوا مجد فرنسا وألقها الفكري.
    ميشال أونفري فيلسوف غزير الإنتاج، نشر خلال عقدين أكثر من ثلاثين مؤلَّفاً، آخرها كتاب في غاية الإمتاع عنوانه: “قوة الوجود” (دار غراسيه) يزاوج فيه بين السرد الأتوبيوغرافي والتحليل الفلسفي... ويحكي فيه مساره الفكري والشخصي. إنه واحد من الفلاسفة الفرنسيين القلائل الذين نجحوا في بيع أكبر عدد من كتبهم وهم على قيد الحياة. وخصوصاً أنّ كتب الفلسفة الجدية والرصينة التي تتطلب درجة معينة من المعرفة والنضج لدى القراء، نادراً ما تنجح تجارياً. باع أكثر من 200 ألف نسخة من كتابه “بحث في علم الإلحاد” (2005)، في وقت انحسر فيه الحديث عن الإلحاد... وصار الرواج الواسع من نصيب الكتب التي تدور حول التطرف الديني! كما أنه باع أكثر من 80 ألف نسخة من دراسته: “سياسة المتمرد: بحث في المقاومة وعدم الخضوع” (1997). وكان النجاح أيضاً من نصيب كتابه الضخم “تاريخ مضاد للفلسفة” الذي صدرت منه أربعة أجزاء حتى الآن.
    تُرجمت أعمال أونفري إلى حوالى عشرين لغة، لكنّها لم تقترب بعد من المكتبة العربية. ما هي ميزة هذا الفيلسوف الذي لم يفكر العرب في ترجمته حتى الآن؟ وما هي طبيعة مشروعه الفلسفي؟ إنه، بإيجاز، فيلسوف حسي ومُتعوي (من مذهب المتعة Hédonisme)، ينتمي إلى نزعة إلحادية يسارية، ويشتغل تحت راية فيلسوفين أساسين فريديريك نيتشه وجيل دولوز. وهذا ما يظهر جلياًَ في دراسات لافتة أصدرها لا تخلو عناوينها من الطرافة مثل: “بطون الفلاسفة أو نقد العقل الغذائي” (1989)، و“فن الاستمتاع: من أجل مادية متعويّة” (1991)...
    هذه الدراسات وغيرها، جاءت مزيجاً ذكياً من التفكير المرح الذي يستعين بالمفاهيم الفلسفية، وبأدوات العلوم الإنسانية والنصوص الأدبية، ليمجد الرغبة والذوق والجمال. وأسّس أونفري أخيراً الجامعة الشعبية في مدينة كان Caen شمال فرنسا، حيث يعطي مع مجموعة من أصدقائه دروساً مجّانية للطلاب في مختلف ميادين الفلسفة وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والأدب والعمارة والموسيقى...
    لكن لماذا الحديث عن هذا الرجل الآن؟ لأنه ببساطة تحوّل في الشهور الأخيرة إلى ضمير الشقي، لما يعرف في فرنسا بـ“يسار اليسار”، أي اليسار المناهض للعولمة بمختلف توجهاته. في الشهر الماضي، نشر رسالةً مفتوحةً في صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية بعنوان “واحد من أجل ستة، ستة من أجل واحد”، دعا فيها بصرامة زعامات اليسار المناهض لليبرالية إلى تفادي الغرق في دوامة التشرذم والتفرقة والنرجسية السياسية. ودعاهم الى انتهاز فرصة الانتخابات الرئاسية في فرنسا (نيسان/ أبريل المقبل) لتقديم مرشح واحد كفيل بإعلاء راية اليسار الأصيل، وتقديم برنامج سياسي واجتماعي ضد الليبرالية بشقيها اليميني والاشتراكي. برنامج انتخابي قادر على استقطاب أصوات الناخبين يميناً ويساراً، وخصوصاً أولئك الذين صوتوا خلال الاستفتاء الأخير ضد الوحدة الأوروبية وخياراتها الليبرالية المكشوفة.
    يرى هذا الفيلسوف، أن الإطار الحالي في فرنسا يمثّل فرصةً تاريخيةً لليسار، كي يبلور هوية جديدة تُجمِّع في طياتها التيارات المدافعة عن البيئة، والتيارات النسائية والعلمانية والأقليات... وخصوصاً أنّ ما يجمع تلك الروافد المختلفة أكثر مما يفرّقها. والواقع أنّ أونفري قصد تحديداً ست شخصيات هي: ماري جورج بوفيه الأمينة العامة للحزب الشيوعي، وأوليفييه بوزانسنو زعيم الرابطة الثورية ذو النزعة التروتسكية، وجوزيه بوفيه مؤسس الكونفدرالية الفلاحية وأحد أشهر مناهضي العولمة، وإيف ساليس رئيس رابطة “كوبيرنيك” المناهضة لليبرالية... إضافة إلى كليمانتين أوتان وباتريك براووزيك وهما شخصيتان شيوعيتان مستقلتان لهما حضور بارز في ساحة اليسار الفرنسي الجديد.
    لم ينتظر زعماء اليسار المناهض لليبرالية طويلاً ليردوّا على أونفري. إذ شعروا بالوقع القوي لرسالته وتأثيرها في الرأي العـــــــــــام اليساري. هكذا، ردّوا بشكل جمـــــــــــــــاعي في الصحيفة عينها التي أفردت لهم غلافها وصفحاتها الأولى. لكن الردود ــ وإن رحّبت بفكرة الوحدة ــ لم تتحمّس كثيراً لمسألة المرشح الواحد. وهال أونفري ألا يتوصّل “يسار اليسار” إلى الاتفاق على مرشّح موحّد لانتخابات الرئاسة الفرنسيّة، ما سينعكس لصالح المرشّحة الاشتراكيّة منذ الدورة الأولى! فاتّهم قادته بأنّهم سجناء مصالحهم الشخصــــــــــية ونظرتهم الحزبية الضيقة.
    لم يصب أونفري بالإحباط، بل ما زال يرفع صوته من أجل يسار جديد من خلال مقالات منشورة في موقعه الشخصي على الإنترنت. لقد صبّ الأسبوع الماضي جام غضبه على زعامات اليسار، ودعاهم الى التحرر من نزعتهم الطفولية والالتفات إلى حركة المجتمع بدل التقوقع في خلاياهم الحزبية وأفكارهم المتلبدة.