دمشق ــ خليل صويلحرام الله ــ يوسف الشايب

إذا كان هنالك من ميزة أساسيّة للأفلام العربيّة
الشابة، فهي “انتفاضة الأنا» التي تكاد تكون قاسماً مشتركاً بين أبرز التجارب منذ منتصف التسعينيّات... بعيداً عن الهموم الوطنية الكبرى التي طبعت العقود الماضية. هل يكون خلاص السينما في الوسائط الجديدة؟ جولة على بعض التجارب بين سوريا وفلسطين


فجأة، بدا الأمر كما لو أنّها طفرة سينمائية حقيقية في دمشق. عشرات الشبان يوقّعون أفلامهم الأولى. وحين تسأل عن السّر، تأتيك الإجابة الحاسمة. إن صعوبة اختراق جدران المؤسسة العامة للسينما ــ الجهة الوحيدة لإنتاج الأفلام في سوريا ــ وضعت هؤلاء الشباب أمام امتحان عسير: إما الانتظار الطويل أو اقتحام الساحة بوسائلهم. كثيرون اختاروا النزول إلى المعمعة. لم يعد مهماً هنا أن يكون الشريط طويلاً أو قصيراً، روائياً أو تسجيلياً. يكفي أن تضع كاميرا على كتفك وتتجول في الشوارع. دقيقتان أو خمس دقائق تكفي للتعبير عن قلقك إزاء طاحونة الحياة اليومية. أفلام مرتبكة تقنياً، وخبرات أولية في مناوشة متطلبات “الكادر”. عدسة ترغب في هدم الجدران والتحرّش بالمحرّمات. إنه جيل الألفية الثالثة في السينما السورية، جيل الضجر والخيبات والعطالة.
خلال ثلاث سنوات، كانت حصيلة عمل هؤلاء الشباب ما يقارب المئة فيلم. حصل بعضهم على فرص نادرة في تمويل شريطه من “المؤسسة العامة للسينما”، فيما اعتمد آخرون على التمويل الذاتي.
يقول حازم الحموي: “لم أطرق باب المؤسسة العامة للسينما لقناعتي بصعوبة اقتناص فرصة. اضطررت للتمويل الذاتي. هكذا أنجزت شريطي الأول “الضفة اليمنى من ذات الطريق” (2004)، بكاميرا منزلية، ووضعته على الرف مع أشرطة أخرى مؤجلة. بعد أربع سنوات من العمل الفردي، فقدت حماستي. فالمحظورات الرقابية أكبر من أن يتحملها أحد... والرقابة لم تعد محصورة بجهة واحدة”. لكن هذه المحظورات لم تمنع حازم الحموي من اقتحام موضوعات جريئة. في “طفولة المكان”، يرصد هذا المخرج الشاب الأماكن المقدسة لدى الاسماعيليين، ويبحث في النشيد الصوفي لهذه الطائفة المتمرّدة.
أما طلال ديركي، فلا يرى في السينما السورية مرجعية له. يؤكد أن القطيعة ضرورية ما دامت هذه الأفلام لا تشكّل حالة تراكم. هي لم تصنع بطلها الخاص حتى اليوم. لقد تَقدّم إلى المؤسسة العامة للسينما بأربعة مشاريع رُفضت. شريطه الوحيد الذي نجا من المنع الجزئي حمل عنوان “رتل كامل من الأشجار” (2005). إذ وافقت اللجنة الفكرية في المؤسسة على تصوير مشهد واحد من أصل عشرة. هكذا خاض مغامرته الأولى بنوع من التواطؤ، بعدما أدخل المشاهد الممنوعة بشكل موارب في نسيج الفيلم. حكاية الشريط مألوفة: قصة حب محبطة تنتهي في غرفة في أحد الأحياء العشوائية بعد فشل حلم الهجرة.
يراود المخرجون الجدد مناطق محظورة، لطالما أهملتها السينما السورية أو تجاهلتها عمداً. لم تعد القضايا الوطنية الكبرى تشغل بالهم إلا عرضاً. في شريطه” وجوه”، يثبّت إياس مقداد عدسة الكاميرا على الأقدام، ليروي حكايته عن غياب أصحاب هذه الوجوه وتعبيراتها الذاتية. فيما تذهب ديانا جيرودية في شريطها “القارورة” إلى منطقة بصرية أبعد: أجساد أنثوية تؤطرها العدسة في كوادر صارمة تنحدر من تحت العين مباشرة إلى البطن في مكاشفة صريحة لاستبداد مجتمع ذكوري، يختزل وجود المرأة في منطقتي العماء واللذة. وفي “باب الحديد”، يتصدى زهير قنوع إلى حياة معتقل سياسي قضى سنوات شبابه وراء القضبان. أما ألفوز طنجور في “بالون أحمر”، فيطرح أسئلة الهوية في بلاد تعيش حروباً طاحنة. وتتوجه جود كوراني في شريطها “قبل الاختفاء” إلى نهر بردى، بعدما تحوّل مستنقعاً، وتسخر من مواضيع الإنشاء المدرسية التي لا تزال تتغنى بجمال النهر.
هذه المحاولات السينمائية الشابة التي بدأت تثبت وجودها في أكثر من مدينة عربيّة، وصولاً إلى الاعتراف العالمي أحياناً، لا تعتمد على مرجعيات راسخة. بل إن بعضها يعلن قطيعة كاملة مع تجارب من سبقه. ويراهن هؤلاء الشباب على ولادة سينما مستقلة في سوريا تكسر القيود التقنية والإنتاجية، وتتطلع إلى سرد ذاتي.
أما في السياق الفلسطيني، فإن القطيعة تبدو أكثر وضوحاً لأسباب عدّة، ليس أقلّها ذلك التفاوت بين تقاليد سينمائية نضاليّة، نشأ عليها الجمهور والمبدعون على السواء... وبين “انتفاضة” الأنا وفورة الوسائط الجديدة. السينما الفلسطينية التي اقترنت انطلاقتها في ستينيات القرن الماضي بالقضيّة السياسية والوطنيّة، فإذا بها سينما الثورة والمقاومة، استعادت في السنوات الماضية نبرتها الذاتية. وقد برز أخيراً جيل جديد يمضي قدماً في المجاهرة بضمير المتكلّم، وتغليب الخاص على العام، وطرق أشكال ولغات بصريّة لم يكن المرء يتصوّر مجرّد وجودها قبل سنوات... هذا ما يمكن ملاحظته في تجارب عدد من المخرجات الشابات في الأراضي الفلسطينية.
في شريطها «صيف 85» (2001)، تتحدث روان الفقيه عن منزل جدتها، ساعيةً إلى استرجاع طفولة احتضنتها جدران المنزل الذي لم يبق منه سوى «شجرة لوز وبقايا صفصافة». تتحدث المخرجة عن ذكريات معلّقة بين أطلال منزل، بلغة سينمائية شفافة تحمل من الموضوع بساطته ومباشرته. تقول الفقيه: “أعتقد أن الاقتراب من المساحة الخاصة لصانع الفيلم يضفي خصوصية عليه. في فيلم «صيف 85» كنت أبحث عن منزلي الصغير ومنزلي الكبير (الوطن)”.
ولا تبتعد إيناس المظفر، في فيلمها السادس، «شرق لـ غرب» عن هذا الاتجاه. وإن كان يحمل في طياته ولادة مخرجة ذات ملامح خاصة، قادرة على إحداث تغيير حقيقي في الأفلام الوثائقية في فلسطين. تتحدث المظفر في الفيلم عما فعله جدار الفصل العنصري بأسرتها. في عام 2004، بدأ «الجدار» يتمدد ويتلوى كأفعى، ما أجبر إيناس وأسرتها على النزوح. لم تكن المرة الأولى التي يتهجرون فيها. فبعد يافا كانت القدس، وما بين الهجرتين، يعيش جيل كامل تهجيراً يومياً. لا تعتقد المظفر أن انتصارها للذاتية، يعبر عن نوع من الانكفاء، بل هو محاولة لانتشال الذات من كل هذا الصخب، وسرد حكايات جماعية من منظار خاص.
لماذا تخرج إذاً لاريسا صنصور من مدينتها، في «باندوليرو بيت لحم»؟ تتجول الفتاة ذات القبعة المكسيكية والمسدّس على كل جنب، في شوارع بيت لحم، تقدّم بانوراما استعراضية للمدينة، وإذا بجدار الفصل العنصري يقف حائلاً أمام إتمام رحلتها. تصوّب مسدسيها نحو الجدار في محاولة للتهكّم على الواقع المرّ... على طريقة دونكيشوت الذي يحارب طواحين الهواء!