مهى زراقط
مع كل إطلالة جديدة، من خلال مؤتمر صحافي أو حوار تلفزيوني، يتميّز العماد ميشال عون بأدائه الخاص الذي يثير الكثير من التعليقات والتساؤلات. ما سرّ هذه العلاقة الخاصة التي تبدو أحياناً صداميّة، بين «الجنرال» والإعلام؟

ميشال عون قائد سياسي لا يفتقر إلى الجرأة، بشهادة خصومه ومؤيديه. لكنّه أيضاً يشكل حالة فريدة على الساحة الإعلاميّة اللبنانيّة. فقد نشأت بينه وبين الإعلام علاقة خاصة لا تخلو من الصداميّة أحياناً. قلّما مرّ الجنرال على الشاشة الصغيرة، من دون أن يوجّه انتقاداً لهذا الصحافي أو ذاك على إدائه المهني، وخصوصاً لجهة الاستخدام (العشوائي) للمصطلحات. ملاحظاته تطاول أحياناً أبسط تفاصيل العمل الصحافي، كصياغة الأسئلة مثلاً. وتلك الحساسية المفرطة لها ما يبرّرها، على الأرجح، في المشروع السياسي والأخلاقي الذي يدافع عنه الجنرال، وفي نظرته إلى اللعبة الديموقراطيّة التي تستند إلى قواعد وأعراف وأصول... لكنّها تطرح السؤال أيضاً عن العلاقة الشائكة بين الرجل السياسي والآلة الإعلاميّة. ولعلّ ميشال عون يقاوم ــ على هذه الجبهة أيضاً ــ رافضاً طغيان الآلة الإعلاميّة التي تحاول تطويع الواقع، بدلاً من التكيّف معه! هكذا قصدنا الجنرال، بهدف إجراء حوار يقتصر على علاقته بالإعلام...
¶ هل كنت راضياً عن المقابلة الأخيرة التي أجريتها قبل يومين على شاشة “المنار”؟
ــــ نعم. كانت مقابلة جيّدة.
¶ هل يمكنك أن تصفها بالمقابلة النموذجية؟
ــــ لا شيء نموذجيّ في المطلق. بعد كل مقابلة، يفترض أن يقوم الصحافي، وكذلك السياسي، بتقويم ذاتي. الصحافي مثلاً يجب أن يسأل نفسه إن كانت أسئلته جيدة في تقنياتها، إن كان أميناً في مهنته وحريصاً على العلاقة الإنسانية مع الشخص الذي حاوره.
¶ والسياسي؟
ــــ أحكي عن نفسي، أنا أعود إجمالاً إلى مشاهدة المقابلات التي أجريها وأنتقد نفسي. ألاحظ مثلاً أن وجهي يتحرّك كثيراً بعيداً عن الكاميرا. لا يمكنني أن أنظر إليها مباشرة، كما في المدرسة الكلاسيكية الأميركية، لأنني أحتاج إلى التحاور مع إنسان في مواجهتي. يجب أن توضع الكاميرا في شكل يتيح لي أن أكون طبيعياً مع المحاور ومع المشاهدين.
¶ هل يعني هذا أنك تعاني من مشكلة مع الكاميرا؟
ــــ لا، لقد تخطّيتها. الناس اعتادوا عليّ هكذا.
¶ لكن السياسيين هم عادة من يطوّعون أنفسهم للاعتياد على الكاميرا. لماذا لم تحاول التأقلم مع متطلبات الكاميرا والظهور التلفزيوني؟
ــــ عندها سأفقد شخصيّتي. أنا أتمتع بصفات جيدة، ولي أخطائي أيضاً. والناس أذواقها متعددة: هناك من يحب اللهجة الهادئة، ومن يفضّل اللهجة الحماسية. إذا أردت أن أفصّل نفسي وفق هذه الأذواق، فسأفقد شخصيتي ولا أعود أعبّر عن ذاتي. وهذا يتعارض مع الصفات القيادية. القائد لا يبحث عن ذوق الناس وكيفية إرضائهم. المهم أن يوصل رسالته ورؤيته، هذا ما ينتظره منه الرأي العام.
¶ تقصد القول إن الظهور الإعلامي يهدف الى إيصال الرسالة فقط، ولا يُستخدم لأهداف أخرى؟
ـــ نعم. الإعلام ليس استقطاب ناس للتصويت وخصوصاً في مرحلة الأزمات. المطلوب أن يكون الوعي شاملاً، وأن يعرف الناس الحقيقة ليتّقوا هذه الأزمات.
¶ وماذا عن علاقتك بالصحافيين، هل تخضع هي أيضاً لنقد ذاتي؟
ــــ طبعاً. منذ اليوم الأول الذي أتعرّف فيه إلى الصحافي، يبدأ التقويم. مبدئياً يحظى الصحافيون بالثقة المطلقة ما داموا جديرين بها، وأعطي غالباً الصحافي فرصته ليثبت مهنيته وأمانته. لكن عندما أكتشف أنه أساء إليّ وإلى عمله، أتخذ موقفاً منه.
¶ كيف؟
ــــ خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة مثلاً، حصلت مشاكل مع الإعلام الأجنبي. لذا صرت أطلب منهم أن يعرضوا عليّ النص قبل النشر. أما محلياً، فما أفعله هو سحب الثقة بالصحافي. قد لا أتوقف عن استقباله، لكنّه يفقد صدقيته عندي.
¶ تؤخذ عليك خلال المؤتمرات الصحافية وبعض المقابلات انتقاداتك المتكررة للصحافيين.
ــــ نعم، لأننا نصطدم دائماً بالمشكلة نفسها: افتقار الصحافي لمقوّمات أساسية في مهنته. أحاول أن ألفت نظره وأنبّهه، فيعاند ويصرّ على “حقه”. كل حقّ له إطار ومبادئ للممارسة. بعض من نصطدم بهم لا يمتلكون الإطار المهني الصحيح، ولا التقنيات الجيدة، ولا حتى العلاقة الإنسانية التي يجب أن تكون موجودة بين الصحافي والشخصيّة التي يجري معها المقابلة. صارت القاعدة التي يقتدى بها اليوم هي الفجور والوقاحة.
¶ هذه انتقادات لاذعة!
ــــ لكنها لم تأت من فراغ، كلّها مبني على ما يحصل معنا. مثلاً لا وجود لشيء اسمه أمانة في النقل. هناك غشّ في العناوين التي نادراً ما تعبّر عن المضمون. وهناك مقابلات يبدأها الصحافي بمقدمة شخصية، يعلن فيها حرب نوايا عليك. كل هذا غير مهني. من يريد أن يجري تحليلاً فليكتب افتتاحية أو مقالة، علماً بأن المحلّل يجب أن يعطي القارئ مادة فكرية، وأن يعرض مختلف الخلفيات والاحتمالات، لا أن يجزم بأمر واحد. ما يحصل في بعض التحاليل السياسية اليوم، تنصّل من المسؤولية الإعلامية وشن حرب نوايا.
¶ انتقاداتك تطاول أيضاً طريقة طرح السؤال وصياغته. رفضت مثلاً قبل أيام أن تحاورك مذيعة “نيو تي في” وفق صيغة «جنرال، أنت متهم...»
ــــ هذا سؤال مرفوض. أرفض التجهيل. أريد أن أعـرف من هو الشخص “المجهول” الذي اتهمني. إذا كانت وزيرة الخارجية الأمــــــــيركية كوندوليزا رايس شيء، وإذا كانت الــــــــــــــوزيرة نايلة معوض شيء آخر... أما إذا كانت سيدة عادية في المجتمع فالمسألة مختلفة طبعاً. من المهم أن أعرف من هو الشخص الذي تقول إنه اتهمني، لأن لكل شخص درجة من الصدقيّة. أحياناً معرفة الشخص تغنيني عن الإجابة. كما ان اتهاماً من هذا النوع يجب وضعه في صيغة الاستفهام، لا في صيغة التأكيد...
¶ تعترض أيضاً على استخدام كلمة «رهان» في الأسئلة
ــــ لا أقبل هذه الكلمة. هل أصبحنا كلنا لاعبين “مراهنين” في سباق الخيل؟ نحن نعمل في السياسة. هناك فرق بين الرهان والخيار، فرق بين أن تختاري حصاناً من عشرة أو تدربي حصاناً ليفوز. صاحب القضية يدفع كل ما يملكه ليربحها، وهذا هو الخيار.
¶ هل من أسئلة أخرى مرفوضة؟
ــــ نعم، الأسئلة الفرضية أو تلك القائمة على معلومات خاطئة. يعمد الصحافي إلى طرحها، وفي ذهنه أنه سيغتصب فكرك فيها. مثلاً «جنرال، قالوا إن أولمرت زارك». من الذي قال؟ ماذا يريد أن يعرف من هذا السؤال؟ أو سؤال من قبيل «فرضاً جنرال إنو فلان قرر...» هل يعتبرون هذا ذكاء؟ آن للصحافيين أن يعرفوا أن هناك شخصاً لا يجيب عن هذا النوع من الأسئلة، وخصوصاً أني أنبههم.
¶ ولا تجيب أيضاً عن “الأسئلة المكررة والمملة”، كما قلت في مؤتمرك الصحافي الأخير...
ــــ لأنه بات أمراً مزعجاً بالفعل. مثلاً «جنرال خفّت شعبيتك». أعتقد أن كل لبناني سمع هذا السؤال والإجابة عنه عشر مرات... «صحيح خفّت شعبيتي؟ فلنجر انتخابات مبكرة». لو كنت أريد أن ألقي المحاضرة نفسها كل يوم لعملت أستاذاً جامعياً.
¶ هل تعتقد أن هناك سبباً لتكرار أسئلة معينة؟
ــــ بالطبع لأن التكرار يمكنه أن يعطي الخبر صدقية في أذهان من يسمعه. تماماً كطرح الأسئلة المستفزة، وهنا ننتقل من “الإعلام” إلى الـ“بروباغندا”. وإن كنت أعتقد أيضاً أن بعض الصحافيين يحتاج إلى المزيد من التجربة، هم ينزلون باكراً إلى سوق العمل.
¶ ألا تضع انتقاداتك الصحافي في موقف صعب؟ سيفكّر كثيراً في السؤال الذي توافق عليه؟
ــــ لا، لأنني أؤمن بالمثل القائل «لا توجد أسئلة غبية، بل إجابات غبية». وهذا يعني أن كل الأسئلة مشروعة بما فيها المحرجة، شرط أن يحافظ الصحافي على احترامه للشخص الذي يقابله. أعطي مثلاً الإعلامي غسان بن جدو الذي يطرح كل الأسئلة الممكنة، لكن باحترام. المشكلة عندما تجدين من يجادلك بطريقة عدائية وتوبيخية، وفيها الكثير من قلة الاحترام، عندها عليّ أن ألفت نظره.
¶ حتى لو شكّل هذا انطباعاً خاطئاً عنك، وعن علاقتك بالإعلام والإعلاميين؟
ــــ لا أحب الشواذ. وسأبقى أقول لمن يخطئ إنه أخطأ. لا يمكنني أن أتحول إلى شخص آخر وأضبط انفعالاتي. إذا انفعل مليون إنسان من خبرية معينة، لماذا لا أنفعل منها يدوري؟ أنا أتأثر مثل كل الناس. إذا أردنا أن نضحك دائماً للرذيلة والجريمة من دون إظهار الانفعال أو الكذب، عندها نطبّع علاقة الإنسان بالكذب.
¶ هل تفرّق بين وسيلة إعلامية وأخرى؟
ــــ أنا أفضّل الإعلام المكتوب، لأنه إذا التزم أصول الممارسة المهنية يسهم في تكوين الفكر السياسي، وحفظ الذاكرة. القراءة تثقف وتخلق مفكراً وكاتباً. أما نشرات الأخبار التلفزيونية، فتقدّم للمشاهد ومضات شعورية، أكثر منها فكرية. الصورة تختزل الفكر أحياناً. أما الراديو فيقع بين هاتين الوسيلتين، لذلك أعتبر أن الإعلام الحقيقي هو المكتوب