strong>محمد خير
في المشهد الفضائي العربي، تبقى لشبكة قنوات “الجزيرة” معاييرها النقدية الخاصة. التفوق المشهود للمؤسسة القطرية، وضعها في موقف غريب بعض الشيء، يتلخّص في كونها مطالبة لا بالتفوّق على الآخرين، بل على نفسها! لذا، انتظر الجميع قناة “الجزيرة الوثائقية” التي انطلقت بعد أسابيع من ولادة “الجزيرة الدولية”. وفيما حازت الدولية إعجاباً وتقديراً نظراً إلى المهنية العالية التي اتسمت بها، والتي وضعتها منذ اللحظة الأولى في منافسة مع المحطات الإخبارية الأكبر في العالم، جاءت انطلاقة القناة الوثائقية بمستوى أقلّ من المتوقع منها. وعلى رغم التأجيلات المتعددة والمواعيد المتضاربة لبدء البثّ، بدت المحطة كأنها أعدت برامجها على عجل، أو كأن الوقت لم يكن كافياً للعاملين فيها، ليحققوا مستوى الإبهار الذي عوّدت عليه “الجزيرة” مشاهدها العربي.
لا يعلم كثيرون أن “الجزيرة الوثائقية” ليست الرائدة على مستوى العالم العربي، إنما سبقتها قناة “المجد” الوثائقية التي انطلقت في كانون الأول 2005. وعدم معرفة الناس بـ“المجد”، خير دليل على ضعفها، فهي لم تحقق أثراً أو تنتج برامجها الخاصة. أما بالنسبة إلى “الجزيرة الوثائقية”، فقد صرّح توفيق القوني، المشرف على المحطة، بأن القناة لن تنتج أكثر من 10 في المئة من برامجها، وهو المتعارف عليه في عالم البرامج الوثائقية، إذ تعتمد القنوات التلفزيونية على شراء برامج شركات صغيرة، تعمل بنظام المنتج المنفذ. لكن هذه الخطّة لا تبرر العدد المُخيف من البرامج الوثائقية التي اشترتها “الجزيرة” من تلفزيون “بي بي سي”، وتعرضها حالياً، مستعينة بالتعليق العربي، ما جعلها تبدو كأنها نسخة معرّبة عن “بي بي سي”، على طريقة الطبعة العربية لمجلة “نيوزويك”!
إلا أن المفارقة الحقيقية تكمن في مكان آخر. قناة “الجزيرة” الإخبارية تملك عدداً كبيراً من البرامج الوثائقية المميزة: “الجريمة السياسية”، “تحت المجهر”، و“أرشيفهم وتاريخنا”... وعلى عكس المتوقع، لم يُنقل أي من هذه البرامج إلى القناة الوثائقية. في المقابل، عمدت هذه الأخيرة إلى بثّ برامج شاهدها المتفرّج قبلاً على الشاشة الإخبارية، مثل “حرب لبنان” بأجزائه الثمانية وسلسلة “ممنوعون”. وبدا أن “الوثائقية” تفضّل في شكل عام بثّ “الأفلام” أكثر من البرامج، ومنها ما قدمته في الشهر الجاري مثل “الصين: نظرة من الداخل”، “حجر الملك سليمان”. أما “الخدم والعمالة” الذي يلقي الضوء على حال المستخدمين في المنازل العربية، فهو الوحيد بين الأفلام الثلاثة الذي أنتجته “الجزيرة”. وقدمت المحطة هذا الشهر أيضاً برامج جيّدة، أهمها وثائقي عن الراحل إدوارد سعيد، وآخر بعنوان “إسرائيل من الداخل”، و“خلف الحقيقة” الذي يناقش مشكلات الأسر العربية، و“لعنة التعويض” الذي يتناول مشكلة تعويضات أهالي ضحايا 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية. أضف إلى ذلك برنامج “مبدعون” الذي يستعرض إبداع الشباب العربي، ويبدأ بثّه قريباً. في شكل عام، معظم البرامج التي تعرضها القناة مدبلجة، وخصوصاً تلك التي تسلط الضوء على مواضيع البيئة والاقتصاد العالمي وتكتشف تاريخ المدن العريقة.
ويبقى السؤال: ما المعيار الذي يتم على أساسه عرض العمل الوثائقي على القناة الوثائقية، وليس على القناة الإخبارية أو العكس؟ وخصوصاً أن القناة الجديدة تواجه مشكلة ــ غير مبررة ــ في الدعاية. المشاهد لا يستطيع أن يحدد البرامج التي يوّد متابعتها إلا من خلال الجلوس طوال اليوم أمام الشاشة، من أجل معرفة أوقات البثّ حسب التنويهات. “الوثائقية” لم تكلّف نفسها عناء إنشاء موقع تفصيلي على الإنترنت، ولم تخصص أي نافذة لها على موقع “الجزيرة. نت” الرئيسي. أضف إلى ذلك أنها لم تقم بتقسيم معين لأيام الأسبوع، فيصبح معروفاً أن الاثنين مثلاً مخصص للأفلام السياسية، واليوم التالي للبيئة... حتى شعار القناة (اللوغو)، تغيّر شكله ومكانه على الشاشة، مرتين خلال أسبوعين.
مع ذلك، فإن البداية لا بأس بها، إنما تحتاج القناة إلى بعض الجهد، حتى تستطيع ــ مرة أخرى ــ أن تنافس نفسها بنجاح!