بغداد ــ سعد هادي
  • تسعينيات بغداد الصعبة بين الانهيار الاقتصادي، والضياع الأخلاقي، وانهيار العقد الاجتماعي

    عن ذاك الماضي الملتبس الذي يلاحق فؤاد التكرلي صاحب «الرجع البعيد» كاتب مقل، وروايته الجديدة «اللاسؤال واللاجواب» (دار المدى) حدث أدبي بلا شك. فيها يستعيد سنوات العراق الرماديّة، من خلال قصّة أستاذ حكومي يعمل سائق سيارة أجرة ليلاً، باحثاً عن أسباب جنونه

    فؤاد التكرلي الذي بلغ الثمانين هذا العام، لا يختلف كثيراً عن الصورة التقليدية للكاتب العراقي. فهو مقلّ مقارنة بمسيرته الأدبية التي تعود إلى مطلع الخمسينيات. لم يصدر سوى مجموعة قصصية واحدة هي “الوجه الآخر” (1960) وثلاث روايات: “الرجع البعيد” (1980)، و“خاتم الرمل” (1995)، و“المسرات والأوجاع” (1998). ثم عاد ليعتبر قصته الطويلة “الوجه الآخر” روايةً، فأصدرها في كتاب مع تجربة أولى أنجزها عام 1949، وحملت عنوان “بصقة في وجه الحياة”.
    ظلّ التكرلي شأن العديد من المبدعين العراقيين، موظفاً محترفاً لــــــــــــــدى الدولة، وكاتباً هاوياً في أوقات فراغه، ما أدّى إلى ضياع الكثير من جهوده. كما أنّ حرفة المنفى أدركته، ولو في وقت متأخر. هكذا، عاش متنـــــــــــــــــقلاً بين تونس ودمشق وعمان. لذلك، يعـــــــــــــــدّ صدور رواية جديدة له حدثاً أدبياً بكل المقاييس ــ عراقياً على الأقلّ، لكن عربياً أيضاً : ليس فقط بسبب ما تثيره أعماله من إشكالات فنّية وفكرية، ولا بسبب تماسكها الفني وحــــــــــــذاقة صنعها، بل لأنّها، بشكل أو بآخر شهادة من ماض ملتبس ما زال يمارس هيمنته على الحاضر.
    نحو مستقبل مجهول
    في روايته الجديدة “اللاسؤال واللاجواب” (“دار المدى”، دمشق ــ 2007)، يعــــــــــــود فؤاد التكرلي إلى النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم: تلك السنوات الصعبة في حياة العراقيين، أيام الانهيار الاقتصادي، وتخلخل الأسس الأخلاقية، وانهيار العقد الاجتماعي بين طبقات وفئات ظل صراعها خفياً طوال عقود.
    بطل الرواية شخص نموذجي من تلك الحقبة الزمنية: أستاذ حكومي يتملّّص من وظيفته ليعمل سائق سيارة أجرة ليلاً. يستقيظ ذات صباح ليجد نفسه متكوماً كالفأر على أرض الغرفة، يرتجف من البرد والخوف. وسرعان ما تتكرّر حالته وتزداد حدةً ومأساوية يوماً بعد يوم. يراجع حياته في سبيل اكتشاف أسباب نوباته الجنونية التي تجعله أقرب إلى الحيوان. هكذا، يروح يتأمل في ما مضى، ويعيد بناء أفكاره. تارةً يعتقد أنّها أفكار جوع: “كانت افكاراً جائعة، مهتزة، ولا تقوم على أساس”... مع أنّه كان على يقين من أنها أفكار صحيحة. وطوراً يخيّل إليه أنّه لا يستطيع أن يوجّه سؤالاً أو يتلقّى جواباً: “إنّني في موقف اللاسؤال واللاجواب، محاط بالظلام الكثيف، أصرخ بصفاقة عن ثقتي بإمكان الخلاص”.
    هذا الخلاص يواجه بمستقبل أسود، بمعنى مبهم يدفعه ــ من دون إرادته ــ نحو مستقبل مجهول. يشعر به أحياناً مثل مرض مميت، يتقدم ببطء لينقضّ في لحظة ويضرب ضربته القاضية. يتذكر أنّه زار مكتبة والده في الليلة التي سبقت نوبة جنونه الأولى. بين هَرَمٍ من الكتب المهجورة، يجد كيساً مليئاً بالذهب تركته هنا يد مجهولة. في تلك اللحظة، تنبعث من ذاكرته صورة رجل رثّ كان أوصله إلى إحدى ضواحي المدينة، ووقع بينهما شجار لا يعرف أسبابه ولا يعرف بدقة تفاصيله.
    عالم الجنون والنسيان
    في الصفحات التالية، ومع تيار الوعي المستمر للبحث عن جذور مشكلته، نكتشف خيبات الرجل وآلامه وعلاقاته المتوترة مع شخصيات عالمه. يحاول دائماً، لكنه يفشل في إحالة معاناته المأساوية إلى الآخر: والده كان مدرساً للغة العربية... يمارس السادية على والدته. لكنّه لا يجد في ما فعله والده ما يبرر تعذيبه هو لنفسه. يشك في تصرفات زوجته، ويبحث في ثنايا ماضيه معها عن مبرّرات تقنعه. إلا أنّه يكتشف أنّ ذلك عمل سخيف، لا علاقة له بما يعتمل في لاوعيه، على رغم أن زوجته هجرته لتتزوج رجلاً آخر ثم عادت إليه نادمة. كما أنّه لا يعتبر هذا الجنون المتقطع، تكفيراً عن تلميحاته الشهوانية تجاه ابنة زوجته التي تتأرجح بين البقاء طفلة أو التحوّل الى امرأة ناضجة. ولا بد هنا من الإشارة إلى أنّ ثيمة السفاح التي تتكرر في روايات التكرلي السابقة، تظهر في هذه الرواية بشكل مخيف.
    تنتهي الرواية بحلّ غير متوقع قد يمثّل خلاصاً فردياً في زمن لا أخلاقي. ويتجاوز التكرلي، عبر هذا الحل، الشروط العرفية والقانونية. هو الذي عمل سنوات طويلة في القضاء، لكي لا يفقد القوة الفنية لنصه.
    البطل في النهاية لا يخرج منتصراً، بعدما وجد مشكلة جوعه وعذاباته الجسدية وشكوكه في الآخرين. نوبات الجنون تعود إليه بعد فترة قصيرة من الانقطاع. عبد الستار حميد، وهو اسمه الذي يظهر في السطر الأخير من الرواية، يدخل مرة أخرى إلى عالمه الثاني، أي عالم الجنون والنسيان الذي لن يخرج منه ثانية. إنها حياة أشبه بالسير بين موتين، حياة تذهب بسرعة نحو الهاوية.
    هذا النص القصير والواقعي، صُمّم بهندسة تقليدية ترتكز على التفاصيل العضويّة، وهو حافل بإيحاءات رمزية تؤدي إلى مستويات دلالية متعددة. قراءته تحيلنا حكماً على المشهد العراقي الراهن. مشهد القــــــــتل الجنوني المستمر، والعنف الذي يرتكبه أفراد مأزومون، يعانون من هستيريا غامضة تتكرر أعراضها يومــــــــــــياً. هل على هؤلاء الرجال الجوف، أن يفكروا في حلول فردية لأمراضهم... قبل أن يفكروا في مشاكل شعب رُوّض ومُسخت قيمه الأخلاقية طوال نصف قرن... وما زال ينتظره الكثير؟...