دمشق - خليل صويلح
قبل ثلاثة قرون، كتب حلّاق الحارة مذكراته عن اللصوص والرعاع وشوارع دمشق القديمة... اليــــوم، قرر هيثم حقي أن ينفض عنها الغبار، ويحوّلها إلى مسلسل، يوثّق فيه الذاكرة ويعلّم الناس كيف يحاربون فساد السلطة

بعد تسلمه مهمات إدارة قسم الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في محطة “أوربت”، وضع المخرج هيثم حقي اللمسات الأخيرة على مجموعة من النصوص التلفزيونية والسينمائية، لتكون باكورة أعمال شركة “ميديا غيت” التي أنشأتها المحطة. وتطمح الشركة الجديدة إلى تنفيذ خطة إنتاجية ضخمة، تصل إلى نحو خمسة مسلسلات و15 فيلماً سينمائياً خلال هذا العام، ستصور كلها بين سوريا ولبنان ومصر.
وقد وقع اختيار المخرج حقي أولاً على نص “الحصرم الشامي”، المقتبس عن كتاب “حوادث دمشق اليومية” لأحمد البديري الحلّاق، وقد قام بمعالجته درامياً فؤاد حميرة، ويخرجه سيف الدين سبيعي.
كتب أحمد البديري الحلاق يومياته خلال القرن الثامن عشر، في الفترة الممتدة بين عامي 1741 و1762. كانت دمشق يومها، تعيش فترة قلاقل وحركات تمرد، في عهدي سليمان باشا العظم وأسعد باشا العظم. وفي أيام الوالي الأخير، وصلت أحوال البلاد إلى ذروتها في ارتفاع الضرائب وسوء المعيشة، فقام أهالي دمشق بثورة وتمرّد بسبب غلاء أسعار الخبز وانتشار المجاعة، وللمطالبة بقطع “دابر الفساد”. وهو ما جعل السلطان العُثماني يصدر فرماناً ينفي بموجبه والي دمشق إلى جزيرة “كريت”، ومن ثم قتله في أنقرة إثر خلاف بينهما. هذه الحوادث اليومية التي كان يسجلها البديري الحلاق بأسلوبه البسيط والساذج، صارت بعد قرنين ونصف، سجلاً معرفياً واجتماعياً واقتصادياً للمدينة، وسيرة للعوام والرعاع واللصوص، و“بنات الخطا” ومواكب الحج. ولم يخطر في بال هذا الحلاق الشعبي، أن مخطوطه سيكون وثيقة نادرة عن ثورات العوام، والحياة اليومية لمدينة دمشق ببؤسها من جهة، ومقاومة أهلها للمظالم من جهة أخرى، في ظل الصراع القائم بين قطّاع الطرق واللصوص، ومفاسد السلطة.
من موقعه في دكان الحلاقة، كان البديري يدوّن يومياته مما يرى ويسمع، بعين ترصد التفاصيل الصغيرة، من دون أن يتدخل في مجريات الأحداث. وإن كان يميل إلى المبالغة في وصف ما يجري، تبعاً للموروث الشعبي في سرد الحكايات، وكأنه امتداد لتجربة المقريزي في “الخطط” التي دوّن فيها تفاصيل الحياة اليومية في مصر، من وجهة نظر شعبية.
كاتب السيناريو فؤاد حميرة، استخلص من هذه اليوميات مجموعة حكايات واقعية، ووضعها في نسيج درامي متجانس، يعيد رسم صورة دمشق في القرن الثامن عشر، كما رصدتها عين الحلّاق. وهي وجهة نظر عامية، توصّف حركة الأسواق وأحوال التجار والباشوات والأفندية والانكشارية ومعاناة الأهالي في تدبير أمور معيشتهم، في ظل مجاعات متتالية، خيمت على المدينة، بعد انتشار الفساد في بطانة السلطة الحاكمة، وانتهت بالتمرد والمقاومة. وتتناسل من هذه الصورة العامة للمدينة حكايات فرعية، تمزج الخاص بالعام، لتتكشف لاحقاً عن خيوط مترابطة. كما تميط اللثام عن طبيعة الحياة الاجتماعية وأنماط المعيشة، وأنواع المهن الرائجة وقتذاك، في محاولة لترميم الذاكرة وتوثيقها.
كان البديري الحلاق يرصد فيضان نهر بردى بالطريقة نفسها التي يسجّل فيها وقائع عرس شعبي، أو نزهة للوالي في غوطة دمشق، أو “إطلاق المحابيس” إثر عفو عام من الوالي للتخفيف من وطأة الضغط الشعبي... كل ذلك في إطار سجل حكائي ممتع وطريف في رصد تضاريس الواقع بكل أطيافه. من هنا، يسعى هذا العمل التلفزيوني إلى مقاربة أسلوبية الكاتب الأصلي، في الوصف والتعبير الشعبي في تسجيل الأحداث اليومية وتوثيقها، بعيداً من الفولكلورية وتجميل الصورة. وهذا ما يؤكده المخرج سيف الدين سبيعي بإصراره على “تظهير” صورة حقيقية لمدينة دمشق في بؤسها وجمالها ومقاومتها، من دون أي “رتوش”. ويقول إن “العمل سيكون شهادة عن مدينة صمدت في مواجهة المصائب”، عبر رؤية واقعية رصينة، توثّق حقبة مفصلية من حياة العوام، ومن وجهة نظرهم، على عكس أعمال أخرى، اخترعت حياة وهمية وقامت بتجميل الصورة على حساب الواقع، في إشارة إلى مسلسلات قدمت رؤية فولكلورية للشام القديمة مثل “أيام شامية” و“ليالي الصالحية” وأخيراً في “باب الحارة”. وقد ضجر المشاهد من تكرار السيناريوات نفسها في تمجيد الحياة الدمشقية في الماضي. إذ تستعاد حبكات درامية تخلو من حرارة الواقع وتنوّع مرجعياته.
في مسلسل “الحصرم الشامي” الذي من المتوقع أن يبدأ تصويره قريباً، سيتعرف المشاهد إلى شخصيات متباينة في سلوكياتها، وفي صراعها ومصالحها المتضاربة التي تمتد من قاع المجتمع إلى حياة الطبقات العليا، في مواقع تقارب في عمارتها وبيئتها طبيعة الحياة قبل قرنين من الزمان. ويشارك حشد من النجوم في العمل، ومن المقترحة أسماؤهم لتجسيد الشخصيات الرئيسية فيه: عباس النوري، سلاف فواخرجي، كاريس بشار، فارس الحلو، رفيق سبيعي، خالد تاجا، أيمن رضا، وعبد المنعم عمايري.