رام الله ــ يوسف الشايب
“حديد يعوي”... بهاتين الكلمتين بدأ فرنسوا أبو سالم قراءته الممسرحة لنصّ “ذاكرة للنسيان” الذي كتبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش قبل أكثر من 25 عاماً. هذا النصّ الجارح الذي يصوّر الفرد عارياً أمام مصيره، تتقاطع فيه شظايا سيرة ذاتية مع يوم طويل من أيام حصار بيروت 1982، في كتابة تفوح منها رائحة البارود والجثث، وبعض الكوميديا، والكثير الكثير من القهوة. “فالقهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني، والوحيد الذي تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة في ‏سلام مبتكر مع النفس والأشياء... والقهوة هي مفتاح النهار، ‏هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام والقهوة الأولى، يفسدها الكلام ‏الأول لأنها عذراء الصباح الصامت”.
فرنسوا أبو سالم الذي حقّق حضوراً عربياً وعالمياً، هو من مؤسسي “مسرح الحكواتي” في القدس الذي توهّج في ثمانينيات القرن الماضي، غاب عن المسرح لعقد ونصف عقد كان خلالها في فرنسا، وإن لم ينقطع تماسّه مع الحركة المسرحية الفلسطينية. وها هو يعود أخيراً الى “قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان” في رام الله بقراءته الممسرحة لنص درويش، متنقّلاً ببراعة الممثل والمخرج المسرحي في بحر النص الدرويشي، حيث تنبت مع كل موجة، أكوام من الحجارة القريبة من لون الرصاص ووحشيته.
تمكّن أبو سالم الذي ينوي تحويل “ذاكرة للنسيان” إلى مونودراما مسرحية بالتعاون مع المخرج الفلسطيني نزار الزعبي، من القفز بين شخصيات عدة، تحسّسها في ذاكرة درويش البيروتية. هكذا، عاد مثل درويش، إلى حيث الرغبة الملحّة في فنجان قهوة، الذي يكتنف دلالات سيكولوجية وحتى جغرافية. ويؤكد كأنه يروّج بسخرية لاذعة لعنوان في مجلة منوعات: “ـعرف شخصيتك من فنجان قهوتك”. فـ “القهوة ‏هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح، والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار. أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي، أعرفها من بعيد، وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه قهوة أخرى، ليس ‏هناك مذاق اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليست مفهوماً، وليست مادة واحدة، وليست مطلقاً. لكل شخص قهوته‏ الخاصة الخاصة...”.
انتقى أبو سالم في قراءته مقاطع مؤثرة يتخيل فيها درويش جنازته، مشدداً على لفّ تابوته الفاخر بعلم فلسطين “واضح الألوان الأربعة” واستثناء اللون الوردي من باقات الورود المحيطة بقبره. وهو إذ يعرب عن سعادته لأنه لم يترك وراءه زوجة، أو ولداً يقف بذُلّ “على أبواب المؤسسات”، يرصد بعض ما يمكن أن يراه في رقوده الأبدي، فيقول “سأبتسم في التابوت”.
وفي شأن مشروعه في تحويل “ذاكرة للنسيان” إلى عمل مسرحي بعد أكثر من 20 عاماً على نشره، يقول أبو سالم: “قد يكون تجدّد الحرب على لبنان، دفعنا الى إعادة اكتشاف هذا النص من جديد. ما يهمني في “ذاكرة للنسيان” أنّ النص مفعم بالدراما، ولا سيما أنّه يجسّد حالة من الصراع الإنساني مع نفسه ومحيطه، في ظروف معقّدة جداً”. ويؤكد أبو سالم أنّ خصوصيّة نصّ درويش تأتي من كونه “نصاً عميقاً ومثقفاً جداً”، مشدّداً على أنّ “ذاكرة للنسيان” كان بداية مرحلة الانقلاب الدرويشي الى مزيد من الذاتية، و“الانتصار للذاتي هو ما يحتاج اليه المسرح”. المسرحية التي سيكون عرضها الأول في فلسطين ستُقدّم على شكل مونودراما، يجسّدها فرنسوا أبو سالم نفسه. ويبدأ عرضها في آذار (مارس) المقبل.