خليل صويلح
لم يشتغل نصّ غنائي عربي على المشاعر وحدها، مثلما فعل النص الرحباني. ذهبت هذه الورشة الخلّاقة (عاصي ومنصور وفيروز)، إلى مناطق بكر في ترشيد الأحاسيس ومخاطبة الجذور النائمة وإيقاظ العشب في حقول بعيدة ومهملة. والغريب حقاً أن هذا النص عصي على النسيان أو الموضة، هو عابر للأزمنة، مثل راية يسلمها جيل إلى جيل آخر، كي لا تقع هزيمة محققة في الأرواح. كانت أم كلثوم مثلاً، رمزاً لمرحلة، لا تخلو من استبداد عاطفي وذكوري أحياناً. هي «كوكب الشرق»، فيما تسللت حنجرة فيروز إلى الصباحات الجماعية كي ترافق صخب النهار... ثم في الحافلات العامة، كأنها طمأنينة مؤقتة لكل البشر، قبل أن يضيعوا في زحام العمل. أتساءل أحياناً: ماذا لو لم تكن فيروز جزءاً من حياتنا، أو لو لم يخترع الرحابنة تلك المعجزة، منذ ذلك الوقت المبكر، فهل كانت حياتنا ستأخذ المجرى نفسه، كأن شيئاً لم يكن؟ لا شـــــــــك في أن الخـــــــــسارة ستكون فادحة.
للصوت أشكال لا تحصى من الرنين... لكن رنين صوت فيروز وحده المختلف في صداقته وغرابته وعاديته أيضاً. هو يشبهنا جميعاً، حين نتنشق رائحة عطر ما، ليرتبط إلى الأبد بحادثة محددة، تخاطب الحواس كلها. عطر صنعه أقدم الكحالة العرب بوصفة سرية، لم يكتشف أحد حتى اليوم بدقة ما تتشكل منه عناصرها وخلائطها البرية. صوت فيروز قادم من البرية حتماً، من طراوة ملمس العشب ليصنع لنا حياة موازية، تخفف عبء المعيش. صوت مبلل بالمطر ورائحة الثلج لحظة سقوطه و»ذهب أيلول تحت الشبابيك» ومفردات أخرى تحتاج إلى معجم سري لفك رموزها، فهي لفرط بساطتها ويوميتها، يصعب اختبارها جمالياً. إذ تحتاج إلى تفكيك معرفي وبلاغي يوازي ذلك العالم السري للصوت والشعر (العامي؟). أرغب في أن أضع أغاني فيروز في سياق مقترح، قصيدة النثر في أبهى نماذجها، وهي فكرة لا تخلو من طيش لدى بعضهم. هذه القصيدة أو الأغنية، تتخفف في نبرتها ومقاصدها من البذخ البلاغي، نحو الهواء الطلق، لتقول ما تشاء بأبسط الأدوات. ولعل الفكرة التي تؤكد أن مهارة البساطة أصعب من مهارة التعقيد، صائبة تماماً في ما يخص النص الرحباني على وجه العموم. هذه البساطة المتروكة جانباً لدى الآخرين، تأخذ شكلها وحيويتها بأصابع هؤلاء الخزّافين المهرة، وبحنجرة فيروز.
هكذا ظلت فيروز مخلصة في صوتها وصورتها لذلك الزمن البهي للأحاسيس المشرقة من دون أن تتردد بدخول مغامرات حقيقية، وخصوصاً عندما سحبها زياد الرحباني نحو بساطه الشعبي لتغادر سجادة العائلة، وتدخل بثقة إلى الأزقة الخلفية للحياة اليومية بقاموس غرائبي يحمل بصمة الابن العبقري والمجنون. هكذا تدخل تعابير جديدة إلى أغنيتها مثل الخس والزيتون من دون أن نحتج على هذا التحول. بل العكس تماماً، كأن زياد وهو يختبر حنجرة فيروز في هذه المنطقة الملتبسة، يسعى إلى خلخلة التاريخ الرحباني لها بتاريخ مضاد، يشبه اللحظة الراهنة بكل تشظياتها، بعيداً من الرومانسية الريفية التي لم تعد موجودة إلا في بطون الكتب، ليؤكد أن فيروز تصلح لكل الأزمنة وكـــــــــل الأدوار، سواء فــــــــي شجن الناي أو جنون الجاز.