بشير صفير
بعد ثلاثة عقود من التواشج بين شعر محمود درويش وموسيقى مرسيل خليفة، ها هو خليفة يكرّم الشاعر الفلسطيني من خلال عمل موسيقي لا مكان فيه للأغنية. الأسطوانة التي صدرت أخيراً عن «Nagam Records» و«Connecting cultures» بعنوان «تقاسيم»، تحمل حنيناً الى سنوات النضال الطويلة التي دافع خلالها خليفة عن «الأغنية الملتزمة». وهذا الحنين يكتنفه حزن على ما آلت إليه الأوضاع في الأراضي المحتلة.
يهدي الفنان اللبناني عمله الى درويش بصمت، بعيداً عن الكلام. ويضعنا أمام سؤال بديهي طالما طرحناه: هل موسيقى خليفة هي التي أوصلت شعر درويش الى الناس، أم العكس؟ ربّما كان الجواب الأكثر هو: لم لا تكون هذه التجربة ــ كما تجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في مصر ــ قائمة على اجتماع موهبتين كل منهما فتحت آفاقاً للأخرى. إذاً بعد أسطوانته الأخيرة «مداعبة»، يعود إلينا صاحب «وعود من العاصفة» بتجربة موسيقية أخرى ضاماً اليه نجله الواعد بشار (إيقاعات) وبيتر هربرت (كونترباص) اللذين شاركا في أسطوانة «مداعبة».
إذا نظرنا الى مسيرته الفنية الحافلة، نلاحظ ان مرسيل يميل الى كتابة الموسيقى اساساً. كرّس بعض إبداعه للتأليف الصرف، محاولاً أن يوازن مسيرته الإبداعية، أمام الانتشار الطاغي لأغانيه شعبياً. منذ انطلاقته عام 1974، كتب موسيقى اللوحات الراقصة (فرقة «كركلا»...) والموسيقى التصويرية لعدد من الأعمال السينمائية لكبار المخرجين العرب (مارون بغدادي، أسامة محمد، محمد ملص)، إضافة الى المقطوعات الأوركسترالية المستقلة (أهمّها «كونشرتو الأندلس»).
في «تقاسيم» يعتمد خليفة الأسلوب المكتوب والمرتجل لبناء المقطوعات الثلاث المتساوية من حيث المدة. يضبط بعض الجمل اللحنية الصلبة الموضوعة مسبقاً، فاسحاً المجال للإحساس الآني الذي يتفاعل مع تلك الجمل. ويفعل ذلك من خلال ارتجالات، أو تقاسيم، تُبنى على أساس المحطة المكتوبة، ثم تعبر بنا الى محطة أخرى. تتكون المادة الموسيقية بسلاسة، يتقابل العود مع الكونترباص تارةً، أو يتبادلان الجمل الموسيقية بالتوالي على شكل حوار (سؤال ــ جواب)... ويتولى الإيقاع ضبط قواعد اللعبة في هذه الحالة أو تلك.
ويتّسم عمل خليفة بأداء الكونترباص بيتر هربرت الذي يتمتّع بتقنية عالية، تسمح له باستصدار أصوات من آلته تقترب من أصوات آلة العود في نبرتها الطبيعية. ولا ينبغي أن ننسى المهارات التي يقوم بها خليفة على عوده من خلال استصدار صوتين بالتزامن في بعض الجمل الموسيقية.
وإذا كانت حصة الأسد من المادة الموسيقية من نصيب العود، فذلك لا يمنع تفرّد الكونترباص من حين الى آخر، نقراً بالأصابع في معظم الأحيان. هذا إضافة الى بعض الوصلات الإيقاعية المنفردة لبشار خليفة. لكن، لسبب ما، يبقى إعجابنا بالأسطوانة ناقصاً... ولعل الملاحظات لا تتعلق بالموسيقى كقواعد، لكن بالجمال والاستمتاع الفطري.
هل يستعيد خليفة يوماً تجربة «وعود من العاصفة» حيث الجمل الموسيقية المتلاحقة تقتحم القلوب والعقول لتستقر في كياننا؟ إنه ألبوم البداية الذي جعل من مؤلفه أحد أهم خالقي اللحن الجميل في لبنان، والعالم العربي.
تجدر الإشارة الى ان مرسيل، كعادته، سيقدم العام المقبل حفلات في فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا وكندا وأميركا اللاتينية والبحرين... وهذه معلومات برسم المغتربين فقط، لا الـ«صامدين هنا».