strong>جوان فرشخ بجالي
دوني جورج أحد أهم خبراء الآثار العراقية في العالم، ومدير “المتحف الوطني” في بغداد أيام صدّام، كان شاهداً على نهب محتوياته. بعد انتظار معجزة لم تأتِ، حزم حقائبه ومضى حاملاً معاركه ومشاهداته وخيباته... فصول من ملحمة تستحق أن تروى

لم تمرّ أيام حالكة على كنوز حضارة ما بين النهرين كتلك التي شهدها العراق خلال السنوات الثلاث الأخيرة. بعد الغزو الأميركي (2003) صارت مقتنيات “المتحف الوطني” في بغداد لقمة سائغةً للصوص من مختلف الأشكال والأنواع. بل أكثر من ذلك، راح بعضهم يدمّر المدن السومرية القديمة، بحثاً عن قطع فنية قد تغري تجّار الآثار. ومنذ ذلك الوقت، لم يتوقف هذا النزيف... بل ازداد حدة وشراسةً. فقد أفرغ المتحف الوطني، حتى اليوم، من 15 ألف قطعة أثرية تقريباً، وهذه الخسارة الوطنية الفادحة ليست سوى جزء يسير مما سُرق من المواقع الأثرية. وما زاد الطين بلّة، أنّ علماء الآثار العراقيين شدوا رحالهم، وهربوا بحثاً عن حياة آمنة في بقاع أخرى، حيث لا يتربص بهم الموت كل يوم وكل ساعة.
تقاعد مبكر
دوني جورج من بين هؤلاء. في مقابلة هي الأولى منذ استقالته، كشف المدير السابق لـ“الهيئة العامة للآثار والتراث” في العراق، ومدير متحف بغداد سابقاً، سبب تقاعده المبكر. ولمن لا يعرف دوني جورج، فإنه من أهم علماء الآثار العراقيين، عربياً وعالمياً. وبسبب شهرته العالمية، انهالت عليه العروض من كل صوب بعد سقوط النظام العراقي، إلا أنّه آثر البقاء في العراق... لكن صعوبة الحياة في بغداد، والتهديد الذي تلقاه بقتل ولده، واستحالة العمل في الادارة الرسمية العراقية بعدما فتك بها سرطان المذهبيّة، كلّها عوامل أجبرته على التخلّي عن أحلامه. هكذا رضخ للأمر الواقع، واختار المنفى... وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية.
كانت دمشق محطته الأولى على طريق الهجرة. فيها أقام دوني جورج مع عائلته لشهور في شقة صغيرة، في انتظار تأشيرة الدخول الى الولايات المتحدة: “تركت وطني وأرض أجدادي مرغماً. لا أستطيع أن أترك عائلتي تدفع ثمن شغفي بحضارات ما بين النهرين. اتخذت القرار أولاً بترحيل أولادي بعد تسلمي رسالة تهديد بقتل مارتن، أصغرهم سناً”.
رسالة التهديد وصلته في ظرف، وقد ألصقت بها رصاصة، ووقعتها جماعة متطرفة اتهمت دوني جورج بالاساءة إليها كلامياً. ويضيف عالم الآثار العراقي: “طلبت الحركة أن أقدّم اعتذاراً خطياً لها، وأدفع مبلغ ألف دولار أميركي، والا قطّعت ابني إرباً إرباً، خصوصاً إذا حاولنا الفرار”. دفع الرجل “متوجباته” سريعاً، و“هرّب” أطفاله الى سوريا... وبقي مع زوجته في العراق... في انتظار حلّ ما، بل معجزة ما!
المعجزة لم تأتِ
لكن المعجزة لم تأتِ. راح الفخ العراقي، في الزمن الأميركي، يضيّق خناقه على دوني جورج. أما العمل في “الهيئة العامة للآثار والتراث”، فتزايدت مصاعبه بوتيرة فظيعة، حتى صار عبئاً لا يحتمل. وراحت الحساسيات الطائفية تزداد ضدّه. يقول بأسف: “قالوا عني صليبي، لكني تغاضيت عن الأمر. راحوا يقولون عنّي إنّني من أهل الذمة، فكيف لي أن أتسلم مناصب ادارية؟ لم أعر أي اهتمام للموضوع على رغم أن الضربات التي تلقيتها كانت قاسية ومؤلمة”.
يؤكد دوني جورج انه اكمل عمله كالعادة، ولم يخضع للضغوط المذهبية من جهة، والارهابية من الجهة الأخرى. ما هو إذاً سبب تقاعده المبكر؟ “منذ ألحقت “الهيئة العامة للآثار” بوزارتين مختلفتين، الثقافة والسياحة، صار العمل مستحيلاً كل الاستحالة”. راح كل وزير يزيد نطاق صلاحياته مقلصاً، في الآن نفسه، تلك التي يتمتع بها رئيس الهيئة. ولم يجد هذا العالم وسيلة أمامه سوى الرحيل. يقول: “في النهاية لم اعد استطيع القيام بعملي. بقيت أشهراً اطالب بتجديد رواتب موظفي شرطة الآثار التي انتهت في شهر آب (أغسطس) الماضي، لكن كلامي كان يذهب سدى. وقبلها حاولت كثيراً العمل لتأمين ثمن البنزين، لدوريات حماية المواقع. فما هو مصير كل هذه التلال الأثرية ان غابت عنها الحماية؟”.
في ظل ظروف العمل الصعبة هذه، وعجزه عن حماية الآثار، قرر دوني جورج ترك العراق. توجّه الى سوريا مع باقي افراد العائلة علّها “تهون”. وما إن ذاع خبر مغادرته العراق في الأوساط العلمية الاوروبية والاميركية، حتى تزاحمت عليه عروض العمل. بعضها من متاحف اوروبية وبعضها الآخر من جامعات. في نهاية المطاف، قرر الرجل الالتحاق بجامعة “ستوني بروك” الاميركية، مدرساً لحضارات ما بين النهرين.
لكن كيف قبل جورج العمل في البلد الغازي؟ هو لا يرى ما يمنعه من العمل في البلد الذي احتل ارضه. إذ يرى انه “منذ ان وقعت الحرب وسرق متحف بغداد، والجامعات الاميركية تحاول بشتى الطرق المساعدة في حماية الآثار العراقية. هناك فرق شاسع بين الافراد في الولايات المتحدة وبين الادارة الأميركية نفسها”. في الواقع، لا يحمّل دوني جورج السلطات الاميركية مسؤولية رحيله عن بلده، بل يعزوها الى التطرف الديني الذي اجتاح العراق. وهو يعرف تمام المعرفة أن ما ينتظره في المستقبل سيكون صعباً، خصوصاً أن له اعداء في الولايات المتحدة، يستعملون ماضيه ضده. هو العضو السابق في حزب البعث العراقي. يرد جورج على هذه الاتهامات شارحاً: “ما لا يعرفه هؤلاء، أنّه لم يكن أمامنا خيار آخر. سوى الانتماء الى حزب البعث في عهد النظام السابق، كانت كل الدروب لتبقى موصدة بوجهك. فلا تنجح في المدرسة، ولا تقبل في الجامعة، ان لم تكن عضواً في الحزب. لبستُ الزي العسكري لأنني أردتُ تحصيل شهادة الدكتوراه. في النهاية لم اكن عضواً فاعلاً او مسوؤلاً كبيراً في الحزب”.
يراهن المدير السابق لـ “متحف بغداد” دائماً، على الوجه الايجابي للأمور... حتى في ايام الحصار والحروب. وهو اليوم، يحاول جاهداً الا يمضي وقته في التحسر على الماضي، والبكاء على احلامه التي سلبها التطرف. فقط حين تسأله، يأخذه الحنين الى مكان بعيد. يبتسم بأسى: “لقد تركت قلبي في العراق القديم. انه هناك ينبض بين تلال تختزن حضارة البشريّة...”.