بغداد ــ سعد هادي
يكتب عبد الستار ناصر كمن يهرب إلى الأمام. «الحكواتي» صدرت أخيراً في دمشق، و «على فراش الموز» في بيروت. وهو يضع اللمسات الأخيرة على «ملائكة الزحمة» عن المشهد الدموي في العراق، وينطلق في رواية عن أدباء الستينيات بعنوان «الهجرة الى الأمس»...

مسيرة عبد الستار ناصر يمكن اختصارها بكلمة واحدة، هي أنها ملأى بالمفارقات. فهذا الروائي العراقي الذي أدخلته قصّته القصيرة “سيدنا الخليفة” (1975) إلى سجون حزب البعث العراقي حيث قبع عاماً كاملاً، عاد وكتب سلسلة من الروايات اندرجت ضمن مؤسسة السلطة الثقافية، لا سيما خلال الحرب العراقية ــ الايرانية. الا أنّ المفارقات لا تقف هنا، فالقاص الغزير الانتاج عاد وأبدى ندمه على ماضيه، شاداً رحاله من العراق الى الأردن في عام 1999، رافضاً تسلّم أي مناصب في الدولة.
يعترف صاحب “أبو الريش” (2001) بأنه أخطأ في حق نفسه كثيراً، عندما استسلم إلى هاجس الانتاجية، إذ أصدر عشرات المؤلفات في فترة محدودة من الزمن. وهو خطأ وقع فيه بملء ارادته. يتمنى الكاتب الخمسيني اليوم لو يعود به الزمن الى الوراء ليحذف بعض الكتب من تاريخه، تحديداً كل ما كتبه من قصص عن حرب الخليج الأولى، ومنها مجموعته “قصص بثياب المعركة” ورواية “الشمس عراقية”.
لكن هل يستطيع الكاتب ان يتخلص من ماضيه بهذه السهولة؟ يقول: “الماضي أساس معماري لكل ما سيأتي بعده... وأظنني في كتاباتي الأخيرة وضعت ما أسميه أساساً ثابتاً يجاور ما سبقه، أو يلتصق به. ذلك لا يعني أنني أحاول تبييض صفحتي، أو التنصل من تاريخي، أو الحصول على شهادة حسن سلوك... بل ببساطة الاعتراف بالخطأ والتحول الى التفكير افضل في ظروف مختلفة”.

غزارة قياسية

أعمال عبد الستار ناصر تُرجمت الى الانكليزية والروسية والألمانية وغيرها. ومنذ كتابه الأول “الرغبة في وقت متأخر” (1968)، أصدر عبد الستار ناصر 42 كتاباً، وهو رقم قياسي عموماً. ترى ما سر هذه الحيوية؟ يجيب: “لا سرّ في ذلك، كنت اضحك احياناً حين اسمع احد الكتاب يقول بإصرار أن “الأدب كل حياتي”. لكنني مؤمن الآن بأنه أصبح كذلك بالنسبة إليّ. أصبحت الكتابة حياتي فعلاً، حتى انني تخليت عن امور كثيرة من أجل الأدب، أمور لا يتخلى عنها سواي مهما كانت قيمة الأدب”. مثل ماذا؟ يجيب سريعاً: “في ظل الظروف السياسية التي حلّت بالعراق، كان يمكنني أن أكون غنياً جداً، وأشغل منصباً رفيعاً، وأن أحصل بسهولة على ما أريد. لكنّ الكتابة كانت بالنسبة إليّ أعظم من أيّ مال وجاه”.
غادر عبد الستار العراق قبل ثماني سنوات، وقد قرّر ألا يعود إليه أبداً... مع أن الحنين الى بغداد، مقاهيها ووجوهها، لا يفارق أدبه. الا أنّ المأساة التي عاشها في بلده تفوّقت على هذا الحنين. الكوارث التي انهالت عليه هناك، تفوق حدود أي منطق على الاستيعاب، أعدم شقيقه وابنه دونما سبب. وذات يوم تسلّمت عائلته رسالة من مسؤولي حزب البعث، جاء فيها أنّهم اعدموا شقيقه وابنه في لحظة غضب، وجرت تبرئتهما فيما بعد. يقول بأسى: “هذه الفاجعة ومثيلاتها شحنتني برغبة قوية في المغادرة، وسهّلت قرار القطيعة النهائية مع العراق. صحيح أنّ الحنين ما زال مستقراً بقوة في داخلي. أحنّ الى بغداد على وجه الخصوص، حيث طفولتي وصباي وشبابي. ذكريات تعيدني الى سوق السرايا، وشارع المتنبي، وإلى اصدقائي وأخواتي وبناتهن وأولادهن. أتألم لأنّهم ما زالوا يعيشون في جحيم الموت والسيارات المفخخة وصهاريج الرعب”.
هل كتبَ عن ذلك؟ نسأله عمّا يجري في العراق الآن؟ “لديّ رواية تنشــــــــر الآن على حلقات في جريدة “الصباح الجديد” الأردنية، عنوانها “الشــــــــــماعية” (وهي التسمـــــــــية الشعبية لمســـــــــتشفى المجانين). وانتهيت قبل أيام من رواية أخـــــــــــرى عنوانها “ملائكة الزحمة” (لا الرحمة). كما نشرتُ مسرحية بعنوان “الخمرة لا تُسكر الموتى”. والوضع العراقي هو أبرز محاور كتابي “جمهورية العوانس” الذي صدر في القاهرة قبل سنة.
ويتحدث عبد الستار ناصر عن المشهد الروائي العراقي الراهن، وعن أسباب قصور الأدب القصصي عن استيعاب ما يجري في العراق: “الكتابة عن وضع العراق الآن شبه مستحيلة... بسبب اتساع حجم الكارثة، واستمرار الفاجعة التي لا تمنح الكاتب أي فرصة ليتأمل المشهد جيداً. كان الله في عون العراقيين جميعاً. اما المثقفون فمأساتهم لا توصف. لم يعد هناك مسرح، ولا تشكيل، ولا نشر مبرمج، وانتهت السينما كلياً منذ سقوط صدام. لا أظنني أحتكم الى العقل في وصف ما يجري الآن في العراق، فهو خارج المنطق وخارج الفنتازيا... وأقرب الى اللامعقول. كيف يصدق أحد على هذه الكرة الارضية أن عدد الضحايا التي تذبح يومياً دونما ذنب، يتخطى المئة؟ وأن ذلك غير كاف كي يتحرك ضمير العالم، فيما تقام تظاهرات واعتصامات كبيرة ــ في المقلب الآخر من الكوكب ــ بسبب مقتل رجل واحد او امرأة واحدة”.

رواية كولاج

يكتب ناصر حالياً رواية سيرة عن أدباء العراق، موغلاً بالتفاصيل في تجربة جيله من أدباء الستينيات، معرجاً على من سبقهم ومن جاء بعدهم. “لنقل إنّها رواية كولاج، استخدمت فيها مذكراتي الشخصية، وبعض مقالاتي، والرسائل التي وصلتني من زملاء وأدباء، إضافة الى ما أعرفه عنهم وما كتبته لهم”. أما العنوان الذي يراود الكاتب، ومشروعه في طور التشكّل، فهو “الهجرة الى الأمس”. لكنّه يستدرك أنه لم يتخذ قراره النهائي بعد.
هذا الرجل لا يملك وقتاً لشيء آخر غير الكتابة. وحين يتسنّى له بعض الوقت، يحاول متابعة ما يصدره اقرانه من أدباء الستينيات: “بين حين وآخر، أعثر على كتاب أو قصيدة او مقال لأحد أبناء جيلي. فاضل العزاوي وفوزي كريم وسركون بولص أصدروا اعمالاً مثيرة، لها صلة بالوضع العراقي وتشعباته. أتابع أيضاً ما يكتبه رشيد الضعيف، خيري شلبي، محمود الورداني... وما زلت على حبي لكتابات زكريا تامر وأمين معلوف الذي قرأت كل ما كتبه”.
بعد كل هذا النفي والتشتت في أصقاع الأرض، ما زال عبد الستار يؤمن بالحياة وخصوصاً بعد التجربة الاخيرة التي مرّ بها. يقول: “تعرضت قبل اشهر الى حادث سير كاد يودي بحياتي. أقنعتني هذه التجربة بأن الحياة ليست دائماً سيئة، وقد تمنيت ــ وأنا بين الحياة والموت ــ أن اعيش ولو لسنة واحدة، أو حتّى لبضعة أسابيع”. سجل الكاتب تلك التجربة في رواية صدرت أخيراً في بيروت بعنوان “على فراش الموز” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). ويمكن اعتبارها الحلقة الثانية في سيرته الذاتية بعد “حياتي في قفص”. ويختم عبد الستار باسماً: “معظم المقالات التي نشرت عن روايتي الأخيرة في الصحافة، صحّح عنوانها ليصير “على فراش الموت”! فلا تقعوا في الخطأ نفسه رجاءً...