strong>بيار أبي صعب
يواصل جيلبير الحاج مواربة الواقع، في معرضه الفوتوغرافي الجديد الذي تستضيفه جامعة البلمند، ابتداء من هذا المساء. كيف يمكن تسجيل الخراب العظيم في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد العدوان، من دون أن نسمح للانفعال أن يطغى على المشهد؟

لا تصدقوا جيلبير الحاج. إنّه مخادع كبير. على كل حال ليس هناك ما يجبركم على تصديقه. هو لا يطلب ذلك أصلاً في أعماله الفوتوغرافية بشكل عام. ولا يطلبه تحديداً في صور معرضه الجديد «موطن 1» الذي يفتتح هذا المساء، ويستمر حتّى 14 الجاري في جامعة البلمند (شمال لبنان). كل ما يفعله هذا المصوّر اللبناني، عادة، هو إزالة الضباب عن المشهد، والأوهام عن الواقع... لذا يبدو ذلك المشهد ــ للوهلة الأولى ــ بارداً، محايداً ونظيفاً. كأننا به يُسْكِت، كلّ مرّة، الشريط الصوتي الذي ينبعث من الصورة. ينبعث من الصورة صمت تأملي فيه من القسوة، بقدر ما فيه من الحكمة.
لا يدلّكم جيلبير على شيء، ولا يسهّل مهمّة التعاطي مع الصورة من طريق خطاب واضح، “مقروء”، صادم إذا شئنا، يستدعي ردود الفعل البديهية والمتوقعة لدى المتلقي، انفعالية كانت أو عقلانية. لذا تطالعكم الحيرة غالباً أمام أعماله. لكم أن تتعاملوا مع هذا المشهد الفوتوغرافي كما يطيب لكم، أن “تنظروا” إليه ــ فالمسألة مسألة نظر في النهاية ــ من خلال مشاعركم وتجربتكم، أفكاركم ومعاناتكم. يسائل الحاج فنّه وأدواته باستمرار. يطرح مجموعة من الأسئلة والتحديات على ذلك “الوسيط” الذي هو فنّ التصوير، يضعه في حالة تصادمية مع الواقع. والفنان الذي يحركه هاجس تعرية الصورة من مؤثراتها الخارجيّة، عزلها ضمن لعبة “تقنية”، لا يفعل سوى الابتعاد عن الواقع بغــــــــية الإحاطة به بشكل أفضل.
وحين يختار أستاذ الفنون البصرية (في جامعة الروح القدس ــ الكسليك، والأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة ALBA، وجامعة البلمند)، تصوير الضاحية الجنوبية بعد العدوان الاسرائيلي الأخير، فهو يضع نفسه مجدداً في منطقة الخطر: كيف يمكن أن نصوّر تلك العمارات المبقورة، والأحياء التي نهشتها أطنان القنابل، بعد أن التقطت لها صور بمئات الآلاف دارت حول العالم واستوطنت المخيّلة؟ بات الخراب “خفيّاً”، مستعصياً على الرؤية: كيف ننظر إلى تلك الهوّة العظيمة؟ بل كيف نؤرخ للكارثة من دون الوقوع في الاستعراضي والانفعالي، وفي كل الكليشيهات التي أنتجتها الآلــــــة الإعلامية الضخمة؟
الحرب. هذا الحدث «العادي»، الأليف. نعرفه عن ظهر قلب، أو يخيّل إلينا أننا نعرفه. يخيّل إلينا أننا عشناه أيضاً. فهل هو أكثر من استعراض كوني ينتمي إلى “تلفزيون الواقع”؟ لكنّ “تلفزيون الواقع” ليس الواقع، وجيلبير يعمل هنا على ردّ الاعتبار الى الواقع. والحرب ليست استعراضاً، ولا وهماً افتراضياً، إنّها كارثة. وجيلبير يسعى إلى إعادة تقديم الحرب، بصفتها حقيقة مادية ملموسة أولاً، وبصفتها استثناء بشعاً أيضاً. «أردت تصوير آثار حرب تموز 2006 على لبنان، تلك التي كان خرابها عظيماً، وابتلعت أحياء كاملة. لا بدّ من أن تعود الحرب إلى ما هي عليه، استثناء وحدثاً طارئاً وغير طبيعي».
الصور المعروضة في البلمند جردة حساب باردة، تتعمّد ترك مسافة مع المشهد. فهل نصدّق أنها التقطت بعدسة مراقب محايد؟ «فظاعة العدوان الأخير أن آثاره نفسها غير واقعية، كأننا أمام ديكور سينمائي... فيما تبدو آثار الحرب الأهليّة، على سبيل المقارنة، ملموسة وحيّة»، يشرح جيلبير. وهذه الغرابة هي التي يتصدّى لها بأسلوبه المعهود، في معرضه «موطن 1» Homeland I. إنّه يتجاوز الواقع بغية إعادة اختراعه. يترك مسافة معه، تشكل أرضاً خصبة للقراءة والتأويل. لقد زرع الكاميرا وسط «الديكور»، مستفيداً من تلك «الفرصة» النادرة التي تسمح له بالكشف على عمارات وأحياء لم يكن يمكن أي عدسة أن تحيط بها، قبل الخراب. من «المربّع الأمني» وساحة الشورى إلى تلفزيون المنار، مروراً بشارع الموسوي وراغب حرب، بئر العبد وحي ماضي (مدرسة العازارية)... نعيد اكتشاف عالم منهار، بتركيباته الهندسية الجديدة، وتفاصيل حياته الماضية. ستارة على شرفة، صورة صامدة لحسن نصر الله، ولدان يلعبان أمام مدخل عمارة، جهاز تكييف فوق شرفة منهارة، ركام... كثير من الركام والحفر الشاهقة. تلك العمارة نصف المستديرة في بير العبد، زخارف واجهتها الباقية تشي بشيء من الفخامة. نتخيّل عرض ديابوراما لهذه الصور، مع موسيقى متنافرة لبارتوك أو شونبرغ.
يواصل جيلبير الحاج عمله هنا على الزمن (المعلّق) والحركة (الثابتة)، من خلال تفكيك البنى واللغات والملامح إلى أشكال وإشارات، هو البعيد كل البعد عن الشكلانية. يستأنف علاقته الصدامية بالواقع، كما فعل من خلال بورتريهاته (شبه) المحايدة في معرض «الآن وهنا» (2004). يومها صوّر مجموعة وجوه عابرة، عارية، اقتنصتها كاميراه بأكبر قدر ممكن من الحياد، بلا ديكور أو تفنّن في الوضعيات... الخلفية الغامقة نفسها، والإضاءة عينها تغمر الوجه بوشاح خاص. استدرج المصوّر «موديلاته» الى لعبة غريبة على كثرة تكرارها تأخذنا الى شيء من الأسلبة والتجريد الميتافيزيقي. بعيداً عن المشاغل التقليدية لفن البورتريه التي تدّعي سبر خفايا الروح وخبايا الإنسان، رصد المتحوّل في الطبيعة البشرية، انطلاقاً من جدليّة الحضور والغياب، الثبات والحركة....
حين صوّر جيلبير “وجوهاً مجهولة” (2002) جرّدها من الستيريوتايب. وصوّر “بيروت” (2004) وقد جرّدها من النوستالجيا. وصوّر الـ“ورود”، منحوتات الزائل (1999) وقد استثنى منها الوقت العابر. لقطــــــــات مــــــــدروســــــــة، متشابهة، لا علاقة لها بعـــنـــــــــصر المباغتة، ولا تترك للعـــــــفـــــويّة أو الارتجال مكاناً. وفي معــــــــرضــــه الجديد، لا يترك جيلبير الحاج للانفعال أن يطغى على المشهد. فقط يؤرخ للكارثة. فقط يشهد!