محمد خير
منذ عصر النهضة وسيزيف العربي يواصل مشروعه الحداثي. لكن سدى! والكاتبة المصرية المعروفة تستقرئ الظاهرة في مؤلَّف صدر أخيراً ضمن سلسلة كتاب «الهلال» (القاهرة)، مشيرة إلى أن بعض دعاة التنوير يواجه في المكان الخطأ

تنطلق فريدة النقاش في كتابها الجديد “أطلال الحداثة” الذي صدر حديثاً ضمن سلسلة “كتاب الهلال” في القاهرة، من مقولة الشاعر اليمني عبد الله البردوني: “لماذا الذي كان لا يزال يأتي؟”. بعد أيام على صدور الكتاب، أعلن حزب التجمّع اليساري أنه اختار النقاش لترؤس تحرير “الأهالي” وهي صحيفة الحزب الرسمية. وفريدة النقاش (1940) ناقدة وصحافية يسارية مخضرمة، اعتقلت مرات عدة في زمن الرئيس أنور السادات، ثم ترأست تحرير مجلة “أدب ونقد” منذ عام 1987. كما أنها رئيسة جمعية “ملتقى المرأة” ولها العديد من الدراسات والكتب.
لماذا إذاً يعود، مراراً وتكراراً، “كل الذي كان”. أو كما تــــــــــتساءل النــــــــــــقاش: “لمـــــــــــاذا عندما تنظر إلى واقع الثــــــــقافة العربية وحال التنوير، تكتشف أن كل معركة كسبنــــــــاها من قبل، علينا أن نكسبها مجدداً”.
ترى المؤلفة أنّ القفزات التي حققتها الثقافة العربية في اتجاه التحديث، ظلت معزولة عن مجتمعها، نخبوية لا يفهمها الجمهور من جهة، ومريبة لا تحبها السلطة من جهة أخرى. كما أن آليات التعليم تعمل من دون أن تحقق أهدافها. على سبيل المثال، تقول الكاتبة إنّها بذلت جهداً كبيراً لإقناع بائعة خضار بأن تترك طفلها يستكمل تعليمه. لكنها فوجئت بالصغير يحكي لها عن قصص العفاريت والجان. وعندما سألته عن مصدر هذه الحكايات والخرافات، اكتشفت أن معلمته في المدرسة هي التي حشت رأسه بها.
هكذا أنتجت هذه العزلة بين مكونات التحديث من جهة، والمجتمع من جهة أخرى، كل هذا التوتر الخفي والمعلن بين العلم والدين. أصبح انتصار أحدهما لا يعني لدى المؤمن به سوى اخضاع الآخر وإقصائه. الحداثة هنا بديل للتخلف لا للثقافة الخاصة. أما التنويريون، فهُم مجرد طابور خامس غرضه طمس الهوية ومحقها.
وتخترع الناقدة المصرية مصطلح “التنويريون الجدد” ــ على طريقة (المحافظون الجدد) ــ لتحديد ذلك التيار الذي يرفع لواء التنوير اليوم في مواجهة الجماعات الظلامية. أما الرأسمالية الطفيلية والتابعة، فليست معركته. ويؤسس ذلك لخرافة تقضي بأنه يمكن نشر التنوير من دون المسّ بالبنية الطبقية للمجتمع، ومن دون تغيير علاقات الاستغلال الاقتصادي. وترى النقّاش أنه يمكن ذلك فقط في حالة استبدال كلمة “التعليم” بكلمة “التنوير”.
وتلاحظ الكاتبة أن التعليم انتشر في بلدان حركات التحرر الوطني، في حين أن الخرافة لم wتتراجع قطّ، بل اعتمدت عليها الحكومات القومية كاحتياطي استراتيجي، فتحالفت أحيانًا مع الجماعات الدينية. في الزمن الناصري، على سبيل المثال، تحققت مفارقة عجيبة: قام النظام بتقديس الرمز السياسي، في حين قامت الجماعات الدينية ورائدها النظري سيد قطب، بتسييس المقدس. هذا ما استخلصته المؤلفة من كتاب محمد حافظ دياب “سيد قطب: الخطاب والإيديولوجيا”.
الخرافة بين شرق وغرب
أما في الغرب، فقد أدى طغيان الشركات المتعددة الجنسية، إلى حصر الإنسان داخل نزعته الاستهلاكية، بعد الترويج لمفهوم أنه لا توجد أفكار عظيمة وأخرى رديئة، فكل فكرة وكل فرد مرجعية بحدّ ذاته. هذه العدمية هي التي سببت الظواهر الغريبة التي يشهدها الغرب من حين إلى آخر، مثل الانتحار الجماعي لجماعات دينية صغيرة، تلقى أعضاؤها “تعليماً” راقياً. لكن هذا لا يعني أنّ الشرق والغرب تساويا “تنويرياً”، بل إن أسباباً مختلفة قد تؤدي أحياناً إلى النتيجة نفسها. هكذا، يهرب الشرقي الفقير من واقعه البائس إلى الخرافة، فيما يلجأ الغربي إلى الخرافة لملء فراغه الروحي.
تلاحظ فريدة النقاش أنّ مساوئ الاستعمار الغربي للشرق منذ مئتي عام، لم تقتصر على الاستغلال المباشر، بل قطعت الطريق على تشكيل بورجوازية محلية، كان يمكنها أن تنتج قيمها التحديثية الخاصة. وتشير الكاتبة في هذا الإطار الى كتاب بيتر غران “الجذور الإسلامية للرأسمالية”. يتطرق غران إلى الشيخ حسن العطار الذي عاش في القرن الثامن عشر، وطوّر أفكاراً مهمة في مختلف صنوف العلوم والفلسفة. لكن الأهم هنا هو نظرة المؤلف إلى نمط من “المستشرقين الجدد” الذين لا تختلف نظرتهم إلى الشرق، عن نظرة أقرانهم قبل مئتي عام. بالنسبة إليهم، الشرق كيان متخلف لا ترقى أفكاره إلى مفهوم الهوية أو الثقافة. هذه النظرة هي المعادل الثقافي للهيمنة الاستعمارية ثم الإمبريالية، وأخيراً الثقافية في إطار العولمة، ومنها انزعاج الغرب من مفهوم “المقاطعة الاقتصادية”. وعلى الرغم من التأثير المحدود جداً لهذه المقاطعة، تضع الفكرة في حد ذاتها النمط الاستهلاكي الغربي موقع النقد والتشكك، وهو ما لا يقبله العالم الغربي. هذه الهجمة الاستعمارية الغربية جلبت معها بالطبع مفاهيمها الثقافية، فاقتبست منها الثقافة العربية مفاهيم الحداثة، ثم ما بعد الحداثة، وذلك في مجتمعات ما زالت تحيا في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أن العديد من المبدعين العرب أنتجوا أعمالاً “حداثية” راقية، فإنها ظلت معزولة تنتمي إلى الغرب أكثر من انتمائها إلى الشرق. وتوزعت “معركة” التنوير بين فريقين، أحدهما حمل على عاتقه “الكفاح” ضد الفكر الظلامي، والآخر وقف خارج ظواهر المجتمع ليحللها من دون الاشتباك معها. وتخلص المؤلفة الى أنها لا تستطيع استبعاد “الحنين” إلى مشروع اشتراكي يتجاوز الراهن، وينتج “تنويراً” لا يخشى الاصطدام بالواقع الطبقي.