محمد فرحان
محتفيةً بتلك اللغة النظيفة، الخالية من النتوءات والزوائد، أتت مجموعة نصوص نادر رنتيسي التي صدرت أخيراً عن “دار أزمنة للنشر والتوزيع” (عمان) تحت عنوان “زغب أسود”. اتخذت المجموعة لذاتها عنواناً فرعياً هو “الرواية الناقصة”، في إشارة لا تتقصّد تجنيس تلك النصوص، بقدر ما تتقصد إبقاء النوافذ مشرعة أمام دلالاتها من جهة، وأمام المتلقي وتأويلاته من جهة أخرى.
تنقسم النصوص إلى “العهد القديم” و“العهد الجديد”. وتتميّز نصوص “العهد القديم” بحدث درامي. لكنّ المركزية تتركّز في الغالب على قراءة الكاتب المختلفة لما يقبع في ظلال الحدث، من حيث الدلالة والمعنى، أي إن الحدث الذي قد يبدو عادياً، يتخذ “لا عاديته” من تلك التفاصيل التي يبرزها الكاتب، ما يسهم في تعزيزه تلك اللغة المحتفية بذاتها، الحريصة على أن تكون واضحة وفاضحة، مع ذاتها ومع الآخرين.
يقول رنتيسي في أحد نصوص “عهده القديم”: “قلت لك عبر الأسلاك/ أريدُ أنْ أراكِ مساءً/ وزفرتُ ليلاً كاملاً الأوسمة/ في المكان الذي يقدم الكؤوس الذهبية/ قبلَها حيّيتني بِودٍّ خذل جُرأتي، فلما تساءلتُ إن كنتِ تعرفينه ابتلعتُ ريقي متوجساً... لكنك أجبتِ بنبرةٍ لزجةٍ كشهوة/ ولوْ!”.
أما نصوص “العهد الجديد” فجاءت منحازة الى القراءة الداخلية، حيث بوح شفّاف لذات تتخيل الآخر وتخاطبه. لكنها في الحقيقة لا تخاطب إلا ذاتها، فالفعل وقع في الماضي ولا يبقى اليوم إلا خرابه شاهداً وشهيداً: “تعالي نعدّ النجومَ حين يأتي المساء... فبالأمس أحصيتها، كلها، قبل انتصاف الليل. ولم أجد ما أفعله بعد ذلك/ فرحتُ أغزل كلماتكِ في جمل أخرى وأركبها ثانية، في فقرة أخرى حتى أنجزت كتاباً كاملاً سأسميه “نصوص العهد الجديد”. ثم نمتُ قبل أن يشرخ البياض السماء كضحكة زنجية ليست في محلها”.
النص الأخير جاء بعنوان “زغب أسود”، وقد استفاد من دلالـة العنوان، وما ينطوي عليه من “دهاء” مغلّف بالبراءة، قارئاً للذات الكاتبة بعد مرورها بعهديها القديم والجديد، وما آلت إليه من خسارة، وما انتهت إليه من وحدة. تماماً كما ينبغي لصاحب قـــــــلب مثقب، غير مؤهـــــــــل لأن يكون مسكناً لامرأة ما: “أنا قبل الثلاثين قلت لعابرة جسدي اخرجي من الثـــــــــقب الحديث في قلبي، ذلك الذي غايتــــــــه أن لا تستقر امرأة على كتفي حتى الخمسين”.