strong>نور خالد حين كتب عبد الرحمن الشرقاوي تحفته “الأرض”،
كانت مي حريري - على الأرجح - صغيرة. ثم كبرت المغنية وقررت أن تكون “فلاحة”، من دون أن تقرأ - على الأرجح - رواية الشرقاوي


لطالما خدم الفلاح السينما المصرية. وحين كان “مجانينها” من الكتاب والمخرجين والممثلين يريدون التمرد والثورة، كانوا يهيمون في أدب الفلاحين وحكاياتهم.
ذهب يوسف شاهين باكراً إلى ريف النيل. في بداية الخمسينيات، كان المخرج المتبصّر قد ضاق ذرعاً بأغاني “ليلى بنت الريف”، والمواويل الساذجة على ضفاف الترعة. تلك الصورة البريئة والممعنة في طهوريتها للفلاح المصري، هشمها شاهين في “ابن النيل” (1953)، وقدم إلينا فلاحاً عصابياً وتائهاً، لا يعرف كيف يحبّ زوجته الصغيرة. فلاح، مثل النيل، يفيض حباً وجنوناً. صورة شكري سرحان في الفيلم بقيت إلى اليوم من الصور النادرة التي حفظها الأرشيف بوصفها شكلاً من أشكال الثورة... إنها السينما في مواجهة مبكرة مع المجتمع والفكر المتبلد المنمّط. ثم جاء الباشا ثروت أباظة. كتب بحنين عارم إلى زمن البلاط وكره شرس لثورة عبد الناصر، تحفة أخرى، خلدتها السينما في “شيء من الخوف”. وحين أراد الكاتب المخملي أن يخترع صورة رمزية تجسد فداحة “الظلم الناصري” و“اغتصاب المجتمع” بنعال العسكر، كان عليه أن يخترع ضحية موغلة في البؤس ولكنها قوية، تجسّد كل المعاني التي أرادها. ضحية تشبه مصر، ترمز إليها وتختزلها: فكانت الفلاحة فؤادة (شادية) التي تقاوم عتريس (محمود مرسي). شادية ستشعل القرية، ثورة حقيقية تحرق قصر عتريس (يرمز إلى ناصر)، وسط صيحات الناس: “جواز عتريس من فؤادة باطل”. عبد الرحمن الأبنودي، ابن الأرض، الصعيدي القناوي، لعب دور البطولة في الفيلم عبر أشعاره التي لحنها بليغ حمدي وغنتها شادية. أغان من الفلاح وعنه، من المقهور وعن القهر. أناشيد للثورة والتمرد، والأهم من ذلك النبل. إنها السينما، وقد غرقت مرة جديدة في نبل الفلاحثم عاد شاهين، ومعه عبد الرحمن الشرقاوي هذه المرة. محمد أبو سويلم (محمود المليجي) سيروي أرض القطن بدموعه ودمه. تجاعيد الأرض والأتلام ليست سوى صورة طبق الأصل عن تجاعيد وجهه البائس. قدم شاهين في رائعته “الأرض” (1971)، صورة أكثر التصاقاً بحالة “الفلاح الفصيح”: بو سويلم، وراء قضبان سجن الإقطاع، يروي الحكايات ويفصح عن الحكمة. يثور ويأبى أن يترك الأرض، فيهبها جسده ويتمرّغ بالتراب مقيداً بحبل ثخين، إلى عربة.
كان “الأرض” فاتحة جديدة لثورة سينما الأفلام السياسية في السبعينيات والثمانينيات. تلك التي ألهمت محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب. هذا الأخير، بدا الأكثر تأثراً، فهجم في أفلام كثيرة على الريف (“الهروب”، “البريء”...). وكان الفلاح، وكما كل مرة، وقوداً وافراً لإشعال المراكب والتقدم صوب “المعركة”.
مع “الحرام”، أكملت فاتن حمامة خطاباً كانت قد سربت شيئاً منه في “دعاء الكروان” لطه حسين. إنها فلاحة الصعيد التي تستبد بها لعنة الانتقام. ها هي الفلاحة، مثل سائر البشر، تدعي وتكذب وتبرق عيناها شراً وشرارة. لكنها، في النهاية، تغرق مجدداً في الوداعة. السينما تغفر للفلاح خطيئته النبيلة، لكنها لن تفعل ذلك مرة أخرى في “حرام” هنري بركات... الفلاحة في بطنها جنين. والقرية كلها تطلب رأسها. الجمهور لا يفعل ذلكإنه يتعاطف مع الفلاح حتى في خطيئته. فهو، غير أهل القرية، يعرف القصة الكاملة. الفلاحة الملعونة لم تفعل إلا ما أكرهت عليه، عنفاً أو خداعاً. الجمهور أيضاً، في نهاية الستينيات، كان قد ضاق ذرعاً باستبداد السلطة، عنفاً أو خداعاً، باسم الحب وقيم الثورة.
وتكررت صورة الفلاح في “آه يا بلد آه” و“رحلة عمر” و“خرج ولم يعد” حتى جاءت التسعينيات، فذابت صورة الفلاح من السينما، وقررت أغاني الفيديو كليب السطو عليها... لأسباب أخرى: حين اختارت نانسي عجرم أن تكثّف معاني الصورة التي أرادتها لنفسها، التي تذهب باتجاه الاختلاف والتمايز، رقصت مثل هند رستم في مقهى شعبي وفستان أحمر. أقامت الدنيا وأقعدتها، قبل أن يضعها نجاحها الذي أطلق مدرسة “العجرمة” في قلق الخيار التالي. حضر الفلاح مرة أخرى. لبست الجلابية، ووضعت على رأسها المنديل، عجنت الطحين، غسلت الخرق في “الدست” المعدني، وركبت الشاحنة مع الأطفال، وصفقت بكل يديها، كما تفعل الفلاحات. كرست نجاحاً ثانياً. أنقذها الفلاح من توهمات السقوط، بعد القمة. ثم اهتدت دومينيك حوراني إلى الفكرة المثيرة ذاتها، فلبست ثياب الفلاحين وشمّرت عن ركبتيها وهربت بحثاً عن “عتريس”... جاء بعدها دور مي حريري التي بحثت عن هذه الصورة الغريبة (الإكزوتيك) في وقت الضجر العارم من أناقة مفرطة ومدعية في الكليبات. لكن حريري قدمت في “فلاحة يا بوي” شخصية سندريلا. كانت الفقيرة التي تذهب إلى بلاط الأمير، بكامل سذاجتها ولطفها، وارتباكها في التعامل مع مظاهر التمدن وأشيائه، وإصرارها، في لحظات الخوف والهلع على أنها “فلاحة يا بوي”. استعاد الكليب صورة قديمة لفلاح أربعينيات السينما المصرية. ثورة سابقة للفلاح الثورجي، الفصيح، القادر على إشعال القرية. إلا أنها بدت مستكينة. بعد أكثر من نصف قرن، لا يعرف مخرجو الكليبات شيئاً عن البناء المضني لصورة الفلاح النبيل. ذلك البناء الذي أوجع سواعد بركات وأدمى كف شاهين وعجن روح الكتاب. ها هو فلاح 2006، يطل علينا من الكليبات، صورة ممسوخة، غرائبية لا تطلع من أرض صلبة، عنيدة وصامدة... أرض “فلاحة يا بوي” عبارة عن استوديو مزروع بشتلات موضبة ومرشوشة ببخاخات المياه. لا ترابها يعرف فستان “سندريلا” ولا قطنها يشعل المعارك... وقبل أيام، بدأت “ميلودي” عرض أغنية هدى حداد “الواد حسنين ابن العمدة”، كليب آخر وصورة رديئة أخرى تستدعي الترحم على تلك الأفلام التي صنعت مجد الفلاح...